مقترح أوروبي جريء .. منظمة تجارة عالمية بدون أمريكا؟
٥ يوليو ٢٠٢٥أثارت مبادرة رئيسة المفوضية الأوروبية أورزولا فون دير لاين والمستشار الألماني فريدريش ميرتس الكثير من الاهتمام. فمنذ قمة الاتحاد الأوروبي في نهاية حزيران/ يونيو الماضي، يدور الحديث عن إمكانية إنشاء منظمة بديلة بقيادة الاتحاد الأوروبي لمنظمة التجارة العالمية التي تأسست عام 1994 وبدأت عملها رسميا مطلع 1995
وأكدت فون دير لاين أنَّ الاتحاد الأوروبي يخطط للتعاون بشكل وثيق مع دول تجارية ذات توجهات مشابهة في آسيا، مشيرةً إلى التعاون مع "اتفاقية الشراكة الشاملة والتقدمية عبر المحيط الهادئ" (CPTPP)، وهي تحالف تجاري يضم كلًا من أستراليا وبروناي وكندا وتشيلي واليابان وماليزيا والمكسيك ونيوزيلندا وبيرو وسنغافورة وفيتنام. والآن أصبحت المملكة المتحدة أول دولة أوروبية تنضم إليه.
أما فريدريش ميرتس فقد تحدث حول "منظمة تجارية جديدة" يمكنها أن تعوّض تدريجيًا "ما لم نعد نملكه اليوم في منظمة التجارة العالمية" التي تتخذ من جنيف مقرًا لها وتعاني منذ سنين من قواعد قديمة عفا عليها الزمن، فشل إصلاحها حتى الآن بسبب عدم اتفاق أعضائها.
ولكن الأهم من ذلك هو تلميح المستشار إلى الشلل الواسع النطاق في تسوية النزاعات التجارية. وذلك لأنَّ الولايات المتحدة الأمريكية تعرقل منذ 2016 - فترة حكم باراك أوباما - تعيين قضاة جدد في أعلى محكمة للتجارة العالمية، أي هيئة الاستئناف التابعة لمنظمة التجارة العالمية.
وكذلك استمرت جميع الإدارات الأمريكية اللاحقة - سواءً كانت ديمقراطية أو جمهورية - في عرقلة تعيين القضاة. وهذا يعود إلى احتجاجها على أحكام نهائية أصدرتها المحكمة في نزاعات تجارية، تعتبر من وجهة نظر الأمريكيين ضارة بمصالحهم الوطنية.
وأدى هذا إلى عدم التمكن من حل النزاعات التجارية بشكل نهائي عند استئناف أحد الأطراف. ومن بين القضايا غير المحلولة النزاع بين الاتحاد الأوروبي وإندونيسيا حول تصدير خام النيكل، والقرار الخاص بجواز تقديم الدعم لشركتي تصنيع الطائرات بوينغ وإيرباص.
تحرير التجارة العالمية من دون الولايات المتحدة الأمريكية
ولكن هل تستطيع أوروبا إنشاء منظمة تجارة عالمية جديدة من دون دعم الولايات المتحدة الأمريكية؟ وما جدوى التعاون مع شركاء ذوي توجهات مشابهة في جميع أنهاء العالم، وخاصةً في منطقة آسيا والمحيط الهادئ؟. رحّب بهذه المبادرة يورغن ماتيس، الخبير في السياسة الاقتصادية الدولية في المعهد الاقتصادي الألماني (IW) في كولونيا.
وقال في حوار مع DW إنَّ "طلب الانضمام إلى اتفاقية الشراكة الشاملة والتقدمية عبر المحيط الهادئ سيمثّل خطوةً استراتيجية مهمة من عدة جوانب، لأنَّ ذلك سيرسل إشارة واضحة إلى الولايات المتحدة الأمريكية بأنَّها تعزل نفسها بسياستها الحمائية بينما يستمر تحرير التجارة العالمية من حولها".
وأضاف أن "ذلك سيخلق اتفاقية تجارية تتجاوز الحدود الإقليمية، وتشمل دولًا مهمة، والاتحاد الأوروبي أكبر تكتل فيها. وستكون اتفاقية تشمل جميع القارات تقريبًا. وربما تشارك فيها أيضًا بعض الدول الأفريقية"، كما قال خبير التجارة يورغن ماتيس: "من الممكن أن ينشأ بذلك 'نادي مفتوح‘ بشروط مفتوحة، ولكنه يضع قواعد منافسة عادلة كشرط للانضمام إليه".
من دون الولايات المتحدة الأمريكية والصين
ولكن هذا يعني - بحسب تعبيره - أنَّ الصين لا يمكنها الانضمام حاليًا، وذلك لأنَّ بكين غير معروفة بالتزامها بقواعد المنافسة العادلة. ويقول ماتيس: "الهدف الاستراتيجي هو إنشاء تحالف تجاري يعالج المشكلات الحرجة حاليًا في قطاع التجارة العالمية: وليس فقط السياسات الحمائية الأمريكية، بل كذلك التشويهات التنافسية الضخمة نتيجة المعونات الصينية الهائلة، التي لا نستطيع مواجهتها، لأنَّ قواعد منظمة التجارة العالمية فيها ثغرات كبيرة جدًا".
وبالنسبة للاتحاد الأوروبي يجب فيما يتعلق بالصين تحديد قواعد منافسة صارمة في مثل هذا التحالف التجاري، "وعندها يمكن القول إنَّ كل دولة تستوفي هذه الشروط يمكنها المشاركة".
ولكن يجب على الصين من أجل ذلك أن تغير نظامها بشكل مناسب وأن تحد من التشويهات التنافسية والمعونات، بحسب قول الخبير ماتيس. أو البدء أخيرًا بإصلاح جذري لقواعد منظمة التجارة العالمية.
تحالف الراغبين في تسوية النزاعات في منظمة التجارة العالمية
وأنشأ الآن بالفعل دعاة التجارة الحرة ما يعرف باسم "التحكيم الاستئنافي المؤقت متعدد الأطراف" (MPIA) داخل منظمة التجارة العالمية لضمان التحكيم البديل من دون الولايات المتحدة الأمريكية. وحاليًا تشارك فيه بحسب مفوضية الاتحاد الأوروبي 57 دولة، تمثِّل 57.6 بالمائة من حجم التجارة العالمية. وتشارك فيه أيضًا المملكة المتحدة بالإضافة إلى دول الاتحاد الأوروبي.
ولكن هناك جمعيات اقتصادية لا تريد رؤية منظمة التجارة العالمية ضعيفة؛ مثل الاتحاد الألماني لتجارة الجملة والتجارة الخارجية (BGA)، والذي يمثّل مصالح المصدرين الألمان.
وفي هذا الصدد قال ديرك ياندورا، رئيس الاتحاد الألماني لتجارة الجملة والتجارة الخارجية، لوكالة رويترز للأنباء: إنَّ إنشاء إطار جديد مع مجموعة من الديمقراطيات الفاعلة له بالتأكيد مزايا استراتيجية. ولكن له مخاطر: إذ يجب ألا نسمح بالانقسام التجارة العالمية إلى تكتلات تجارية متنافسة ذات قواعد مختلفة. "من الضروري أن يتم تصميم هذه المنظمة الجديدة كحل مؤقت فقط، وبهدف واضح هو إصلاح منظمة التجارة العالمية وليس استبدالها".
إصلاح منظمة التجارة العالمية بدل استبدالها
وكذلك تؤكد بروكسل أنَّها لا تريد على الإطلاق الاستغناء عن منظمة التجارة العالمية. وضمن هذا السياق قالت رئيسة المفوضية الأوروبية فون دير لاين إنَّ "التعاون المنظم" مع الدول الآسيوية في "اتفاقية الشراكة الشاملة والتقدمية عبر المحيط الهادئ" يمكن أن يكون أساسًا لبدء إعادة تصميم منظمة التجارة العالمية.
وحتى كبير الاقتصاديين السابق في منظمة التجارة العالمية، رالف أوسا، لم يُخفِ في البودكاست الاقتصادي على قناة DW حقيقة أنَّ منظمة التجارة العالمية بحاجة إلى التجديد. وأنَّها "تحتاج بالتأكيد إلى الإصلاح"، كما قال أوسا الذي يُدرّس في جامعة زيورخ.
وتؤكد هذا التفسير وزارة الاقتصاد الألمانية: منظمة التجارة العالمية بحاجة في الحقيقة إلى إصلاح، ولهذا السبب تسعى الحكومة الألمانية، بالتعاون مع مفوضية الاتحاد الأوروبي، إلى إجراء إصلاحات، بحسب المتحدث باسم وزيرة الاقتصاد الألمانية كاترينا رايشه. وهذا يتعلق مثلًا بوضع قواعد جديدة لدعم الصناعة من أجل خلق منافسة عادلة، ومبادرات من أجل التجارة الرقمية، وتسهيلات للاستثمار.
غموض في السياسة التجارية
ومن الممكن أن يكون إرسال الاتحاد الأوروبي إشارات قوية إلى الولايات المتحدة الأمريكية والصين مرتبطًا أيضًا بتعمده التواصل بغموض منذ فرض الرئيس الأمريكي دونالد ترامب "مطرقة التعريفات الجمركية". والرسالة هي أنَّ: غالبية الدول التجارية تؤيد التجارة القائمة على القواعد.
ويتصور خبير التجارة ماتيس، المقيم في مدينة كولونيا، إنشاء مجموعة بعنوان "أسواق مفتوحة مع تجارة عادلة". ويقول في هذا السياق: "مع وجود الأسواق المفتوحة تبقى الولايات المتحدة الأمريكية في الخارج، ومع التجارة العادلة تبقى الصين في الخارج، إذا لم تتغير الولايات المتحدة الأمريكية تحت إدارة جديدة وأصبحنا نتعامل مع صين مختلفة في المستقبل".
ويرى ماتيس مجموعة كبيرة من المزايا ويقول: "نحن نعزز بذلك تحرير التجارة ونفتح لأنفسنا أسواقًا جديدة. ونعزل الولايات المتحدة الأمريكية أكثر ونظهر لترامب أنَّ سياساته الحمائية في نهاية المطاف خطأ". وبالإضافة إلى ذلك، يمكن للأوروبيين إرسال إشارة مهمة إلى الصين مفادها أنَّنا لم نعد نريد تقبّل تشويهاتها التنافسية.
أعده للعربية: رائد الباش