معطلة منذ 2014- لماذا يخشى حكام تونس المحكمة الدستورية؟
١١ مايو ٢٠٢٥أودعت السلطات العياش زمال السجن في أيلول/سبتمبر 2024 في نحو 20 قضية انتخابية بدعوى ارتكابه مخالفات في تجميع تزكيات الناخبين له في انتخابات تشرين أول/أكتوبر 2024، وقد صدرت ضده احكاماً بالسجن وصلت إلى مدة 32 عاماً لكن تم تخفيضها نحو ست سنوات.
ومثله أيضا لم تسمح هيئة الانتخابات بترشح ثلاثة منافسين آخرين لسعيد رغم صدور قرارات نهائية من المحكمة الإدارية تسمح بخوضهم السباق. وحتى اليوم ظل اثنين من المرشحين خارج البلاد خوفا من الملاحقة القضائية فيما يخضع مرشح ثالث للإقامة الجبرية في تونس.
ويقول خبراء إن غياب محكمة دستورية في تونس منذ 2011 طيلة الانتقال الديمقراطي وحتى اليوم، ساعد السلطة في اطلاق يدها وفي التعسف على القوانين والدستور والقضاء. فلماذا كل هذه المماطلة في تأسيس المحكمة ولماذا يخشاها الحكام الجدد؟
خلفية: من المجلس الدستوري إلى جدل المحكمة الدستورية
تضمن الدستور ما قبل ثورة 2011 في تونس مؤسسة تسمى "المجلس الدستوري" الذي وضع عام 1990 كخطوة رمزية من بين اصلاحات أدخلها نظام الحزب الواحد الذي قاده الرئيس الصاعد حديثا للسلطة الراحل زين العابدين بن علي، وهو مجلس يختص بالنظر في دستورية مشاريع القوانين المعروضة عليه غير أنه كان مرتبطاً بشكل وثيق بسلطات الرئيس الذي مثل محور النظام السياسي في تلك الفترة.
وبخلاف النظر في مشاريع القوانين فإن لرئيس الجمهورية أن يعرض للدرس على المجلس الدستوري ما يراه من مسائل تتعلق بتنظيم المؤسسات وسيرها.
من الصلاحيات المخولة للمجلس الدستوري أنه يبت في الطعون المتعلقة بانتخاب أعضاء مجلس النواب وأعضاء مجلس المستشارين. ويراقب صحة عمليات الاستفتاء ويعلن عن نتائجه. لكن لم تكن هناك إشارات إلى صلاحيات بشأن النزاعات الانتخابية المرتبطة بالانتخابات الرئاسية.
بعد الثورة وضع المجلس الوطني التأسيسي (برلمان) هيئة مؤقتة لمراقبة دستورية القوانين لكن أعمالها كانت محدودة، ثم تضمن الدستور الجديد الذي صدر في 2014 باباً يخص المحكمة الدستورية المكونة من 12 عضواً من بينهم أربعة يتم انتخابهم من قبل البرلمان، لكن اغلبية الثلثين المطلوبة لكل عضو أعاقت انتخاب ثلاثة أعضاء من بين أربعة مرشحين لعدم وجود توافق مسبق بين الأحزاب.
بعد انتخابات 2019 استمرت حالة التعثر في عمليات التصويت في جلسات متكررة ما دفع البرلمان إلى تعديل قانون المحكمة والنزول بعدد الأصوات من الثلثين إلى 131 صوت لتجاوز هذه العقبة، لكن الرئيس وأستاذ القانون الدستوري المتقاعد قيس سعيد المنتخب في 2019، رفض الإمضاء على قانون المحكمة المعدل وأعاده الى البرلمان بدعوى عدم احترام الآجال بالدستور.
بصفته الضامن لتطبيق الدستور، رأى الرئيس قيس سعيد أن أحكام الدستور تقتضي الانتهاء من وضع المحكمة بعد عام من الانتخابات التشريعية لعام 2014، ووضع بذلك المؤسسات الحاكمة أمام وضع مستحيل يقضي العودة في الزمن!
لكن فضلا عن هذا التفسير لم يخف الرئيس سعيد تحفظه من خطوة البرلمان وإسراعه بوضع المحكمة الدستورية في ذلك التوقيت بالذات بعد سنوات من التعثر، وهو ما وصفه بـ"الخطوة غير البريئة".
بعد إطاحته بالبرلمان في 25 تموز/يوليو 2021 وإلغاء دستور 2014 لاحقاً ووضعه دستور جديد بنظام رئاسي معزز في 2022، تأخر مرة أخرى وضع المحكمة الدستورية حتى عام 2025.
وفي نظر الطبقة السياسية المعارضة وحتى خبراء القانون لا يبدو هذا التأخير أيضاً بريء. في الأثناء لا تزال أبواب مقر المجلس الدستوري بجهة باردو والذي يفترض أن يضم المحكمة الدستورية، مغلقة منذ 2011 ولا يعرف متى بالضبط ستفتح أبوابه.
مخاض عسير أم تغييب متعمد؟
في تقدير الخبراء فوت والحكام الجدد والطبقة السياسية في بداية فترة الانتقال الديمقراطي فرصة استكمال المؤسسات الجديدة بوضع المحكمة الدستورية التي كان من الممكن أن تجنب النظام السياسي هزات وخطر الانهيار في 2021.
وفي تقدير بسام حامدي وهو محلل سياسي يعمل لحساب مؤسسات إعلامية ودولية من تونس، فإن الافتقاد إلى إرادة سياسية حقيقية هو من كان وراء تغييب المحكمة طيلة فترة الانتقال الديمقراطي فضلاً عن الصراعات السياسية في البرلمان لتقاسم النفوذ داخلها، ما يفسر فشل جلسات التصويت المتكررة.
ويوضح بسام في حديثه مع DW عربية "كل من وصلوا إلى سدة الحكم لم يرغبوا في إنشاء المحكمة، وذلك نظراً لدورها المحوري خاصة ما يرتبط منها بمراقبة التشريعات وصلاحيات رئيس الجمهورية ورئيس البرلمان. كانت هناك رغبة للسيطرة على الحكم من دون وجود محكمة تلعب دور الحكم في حال تجاوز الصلاحيات أو خرق الدستور".
ويحمل النائب في البرلمان الحالي ثابت العابد في حديثه مع DW عربية، مسؤولية تعطيل المحكمة الدستورية إلى ما سماه بـ"عشرية التعثر" و"ديكتاتورية الأغلبية"، في إشارة إلى من حكموا بين 2011 وحتى 2021، لعدم نجاحهم في إدارة الخلافات واستكمال المؤسسات الضامنة لهذا الاختلاف والانتقال الديمقراطي، حسب رأيه.
لكن لماذا استمر الوضع على ما هو عليه وخاصة بعد جاء إلى الرئاسة بأغلبية واسعة عام 2019 أستاذ قانون دستوري مشهود له بالكفاءة بجانب ترديده المستمر بأهمية احترام علوية الدستور؟
بالنسبة للفقيه في القانون الدستوري أمين محفوظ، وهو وزميل تدريس سابق في الجامعة التونسية للرئيس الحالي قيس سعيد في التخصص ذاته، فإن المعادلة تتعلق بكل بساطة في صعوبة الجمع بين "نظام استبدادي ومحكمة دستورية".
وأمين محفوظ هو من بين عدد من الخبراء المعروفين في تونس الذين اصيبوا بخيبة أمل بعد دعم قوي للرئيس سعيد في الفترة الأولى من حكمه لتشدده في تطبيق فصول دستور 2014، على الرغم من الجدل الذي رافق تأويله الخاص لبعض فصوله والتي استخدمها في فرض الأمر الواقع على خصومه، ومن بينها رفضه المصادقة على تعديل وزاري موسع وتعطيل المحكمة الدستورية وتجميد اختصاصات البرلمان في 25 تموز/يوليو 2021 تمهيداً لحل النظام بأكمله لاحقاً.
والخيبة كانت مضاعفة لخبراء القانون الذين شاركوا في وضع دستور 2022 الجديد ومن بينهم محفوظ، بتكليف من الرئيس سعيد، قبل أن يكتشفوا نسخة مغايرة للدستور الذي عرضه الرئيس بعد ذلك على الاستفتاء، خاصة في ما يرتبط بالصلاحيات الواسعة والمهيمنة للرئيس على حساب باقي مؤسسات الحكم.
ويوضح أمين محفوظ لـDW عربية "استحوذ الرئيس قيس سعيد على الحكم بطرق غير قانونية وهو يواصل في نفس النهج لذلك هو لا يريد وضع محكمة دستورية تكون بمثابة مراقب للصلاحيات والتجاوزات للدستور وللمواثيق الدولية".
سحب مباردة في البرلمان الجديد!
يشير دستور 2022 الذي خطه الرئيس قيس سعيد في الباب الخاص بالمحكمة الدستورية إلى أن جميع أعضائها التسعة يتم تعيينهم بـ"أمر"، أي من الرئيس وهي طريقة مختلفة عن دستور 2014. ويتم اختيار الأعضاء من بين الأقدم في محاكم التعقيب والمحاسبات والمحكمة الإدارية.
ويعني ذلك أنهم سيكونون في وضع استبدال دائم لأنهم على مشارف التقاعد بحكم تقدمهم في السن، وقد لا تتجاوز عضويتهم بضعة أشهر ليتم تعويضهم بمن يليهم في الأقدمية وهكذا دواليك.
وفي أبريل/نيسان 2025 تقدم عشرة نواب بمشروع قانون لوضع المحكمة الدستورية بدعوى استكمال المؤسسات المرتبطة بدستور 2022 وإنهاء العمل بالأحكام الانتقالية، ولكن أيضا حتى يخرج البرلمان الجديد من "مظهر التبعية" لمؤسسة الرئاسة، وهي من التفسيرات التي راجت في وسائل الإعلام. لكن مكتب مجلس البرلمان أعلن عقب اجتماع لأعضائه مع رئيس المؤسسة التشريعية، إسقاط المبادرة القانونية بعد سحب خمسة نواب لإمضاءاتهم من مشروع القانون دون تقديم إيضاحات، ما أثار تكهنات باحتمال تعرض النواب لضغوطات.
ويعترف النائب ثابت العابد لـDW عربية بأهمية تأسيس المحكمة لجهة أن عديد القوانين التي أصدرها البرلمان لا يمكن التأكد من دستوريتها بشكل قاطع كما لم تخضع إلى مراجعات من الجهة القانونية المتخصصة، وأدى ذلك بالنتيجة وفق النائب، إلى خلافات متكررة في البرلمان وفي مكتب المجلس. ويقول العابد "لا يمكن الحديث عن انتقال ديمقراطي بدون وجود محكمة دستورية"، مرجحاً أن يتم النظر في مشروع قانون جديد في فترة لاحقة من الدورة النيابية الحالية.
لكن في الواقع لا توجد ضمانات فعلية لذلك كما لا يحدد دستور 2022 سقفاً زمنياً لوضع المحكمة. ويعتقد المحلل السياسي بسام حمدي في تعليقه لـDW عربية، أن المحكمة الدستورية لا تبدو اليوم من أوليات نظام الحكم الحالي في تونس، وأنه في أفضل الحالات قد يسمح الرئيس بوضعها بعد استكمال مشروعه السياسي وإرساء القوانين التي يرغب بها. ولا يستبعد حمدي أن يدفع الرئيس نفسه بمشروع قانون المحكمة الدستورية بدل نواب البرلمان.
انتكاسة وضرب للقضاء
على الجانب الآخر من المجتمع المدني توجد تحفظات من نوايا النظام الحالي في التعامل مع المؤسسات الدستورية ومن بينها مصير المحكمة في ظل هيمنة كاملة لمنصب الرئيس على أجهزة الدولة وفي ظل سوابق مقلقة من نظام الحكم الحالي. ويرى الخبير في قطاع الاعلام والاتصال والعضو السابق في الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي والبصري (هايكا)، هشام السنوسي أن مقاربة الرئيس قيس سعيد لـ"الأجسام الوسيطة" مثل المجتمع المدني والأحزاب، تنسف فكرة الديمقراطية التشاركية وتؤدي بالضرورة إلى نوع من التسلط.
في عام 2024 حلت السلطة "الهايكا" التي كانت مكلفة بمرسوم منذ 2011 "بتنظيم قطاع الإعلام وتعديله وضمان تعدده وتنوعه وتوازنه واستقلالية وسائله، وضمان حرية التعبير".
ويقول السنوسي لـDW عربية "إنها انتكاسة كبيرة. لقد استبشرنا بأنه رجل قانون (قيس سعيد) لكن التجاوزات التي حصلت في تونس لم تشهدها البلاد منذ نجاح الثورة".
كانت الهايكا اعترضت على إجراءات رافقت الانتخابات التشريعية لعام 2022 كما طالبت الرئيس بإلغاء مرسوم 54 الذي ينظم الجرائم المرتبطة بأنظمة الاتصال، وهو مرسوم موضع انتقادات من منظمات حقوقية تونسية ودولية لكونه كان سبباً في ملاحقة القضاء لصحافيين ومدونين ومحامين ونشطاء ومعارضين بتهم مثل "نشر إشاعات او أخبار غير صحيحة".
ويرى المحلل والمتابع للشأن التونسي، بسام حمدي، أن أهمية المحكمة الدستورية اليوم لا تمكن فقط في التصدي لمثل هذه المراسيم التي تضيق على حرية التعبير ولكن أيضاً في مراجعة عديد المراسيم الأخرى والقوانين التي تتناقض مع دستور قيس سعيد لعام 2022.
ونظرياً يمكن لقضاة المحاكم أن يبتوا في القضايا المرتبطة بدستورية القوانين لكن يتوقف هذا على مدى توفر قضاء مستقل فعليا، وفق الفقيه المتخصص في القانون الدستوري أمين محفوظ. ويقول محفوظ لـDW عربية "في تونس تم ضرب استقلالية القضاء. رغم أن الدستور يوفر عدة ضمانات وكذلك المواثيق الدولية. لكن السيد قيس سعيد تجاوز عبر مراسيمه هذه المبادئ الدستورية واستخدم القضاء ضد خصومه وضد كل نفس حر".