صدع بين ضفتي الأطلسي .. برلين تبحث عن "طريق أوروبي مستقل"
١٨ فبراير ٢٠٢٥شهدت العلاقات عبر الأطلسي توترا شديدا وهزة قوية منذ نهاية الأسبوع الماضي. وعبر عن ذلك كريستوف هويسغن، رئيس مؤتمر ميونيخ للأمن، بعد الكلمة التي ألقاها نائب الرئيس الأمريكي جي.دي. فانس، بقوله إن هناك مخاوف "من أن قاعدة القيم المشتركة، لم تعد مشتركة بعد الآن". ووصف هويسغن المؤتمر بأنه "كابوس أوروبي".
ليس خطاب فانس هو الوحيد الذي أثار غضب السياسيين الألمان، وإنما أمور أخرى أيضا. حيث اتهم أوروبا بتراجع الديمقراطية فيها ودعا الأحزاب الألمانية بشكل غير مباشر إلى التعاون مع حزب البديل من أجل ألمانيا (AfD) اليميني المتطرف جزئيا. ورسالة فانس هي أنه ستكون هناك حماية عسكرية أمريكية إذا كان الأوروبيون على نفس الخط السياسي مع الإدارة الجديدة في واشنطن.
فانس يلتقي رئيسة حزب البديل ولا يلتقي المستشار!
ورد المستشار أولاف شولتس على خطاب فانس، الذي كان قد غادر المؤتمر، بالقول "لن نقبل تدخل الغرباء في ديمقراطيتنا وفي انتخاباتنا.. نحن وحدنا نقرر الاتجاه الذي ستتخذه ديمقراطيتنا. نحن ولا أحد آخر". وأضاف "هذا غير لائق وخصوصاً بين الأصدقاء والحلفاء".
بدوره قال فريدريش ميرتس، مرشح الاتحاد المسيحي لمنصب المستشار، في مقابلة مع DW: "سوف نرى في مؤتمر الأمن هذا نقطة تحول كبرى بعد بضع سنوات". وبحسب كافة استطلاعات الرأي، لدى ميرتس أفضل الفرص ليصبح المستشار المقبل بعد الانتخابات المقررة في 23 فبراير/شباط. وأضاف ميرتس "أن الضمانات الأمنية الأمريكية أصبحت موضع تساؤل، والمؤسسات الديمقراطية أصبحت موضع تساؤل لدى الأمريكيين". كما رفض ميرتس أيضا التدخل في انتخابات ألمانيا.
حتى حضور نائب الرئيس الأمريكي للمؤتمر من الناحية البروتوكولية كان مستفزا، فصحيح أنه التقى زعيم المعارضة الألمانية ميرتس، لكنه لم يلتق بالمستشار أولاف شولتس! أما لقاؤه مع زعيمة حزب البديل من أجل ألمانيا، أليس فايدل، فكان إهانة خاصة لشولتس وميرتس. علما أن حزب البديل لم تتم دعوته إلى مؤتمر ميونيخ للأمن لأسباب سياسية، وكلاهما شولتس وميرتس يرفضان بشكل قاطع أي تعاون مع حزب البديل.
مفاوضات حول أوكرانيا بدون أوكرانيا!
استفزاز آخر للإدارة الأمريكية هو تعاملها مع ملف حرب أوكرانيا. حيث اتضح في الأثناء أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يريد أن يتفق بمفرده مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على السلام في أوكرانيا. ولن يشارك الأوروبيون في المحادثات الأمريكية الروسية التي بدأت في الرياض. وقال المستشار أولاف شولتس "يجب أن نطالب بذلك، لأنه لن ينجح الأمر بدوننا".
لكن يبدو أن الأمريكيين ينظرون إلى الأمر بشكل مختلف، فالجنرال كيث كيلوغ، مبعوث ترامب الخاص لروسيا وأوكرانيا، أوضح في مقابلة مع DW على هامش مؤتمر ميونيخ للأمن، بأنه لن يكون هناك مقعد للأوربيين على طاولة المفاوضات وأنهم لا يستطيعون سوى تقديم "مساهمة" محددة. ويعني بذلك إرسال قوات سلام إلى أوكرانيا، لن تشارك فيها الولايات المتحدة.
يبدو أن أوكرانيا أيضا خارج المعادلة، ليس هذا فقط. بل إن كل ما ناضل من أجله الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلنسكي، منذ بداية الحرب وما قاتل من أجله الجيش الأوكراني، قد تجاهلته الإدارة الأمريكية. حيث أوضح وزير الدفاع الأمريكي، بيت هيغسيث أن أوكرانيا لن تستعيد كل أراضيها التي فقدتها ولا حدودها السابقة ولن تصبح عضوا في حلف الناتو. علما أن كلا الأمرين: وحدة الأراضي الأوكرانية وعضوية الناتو كانت دائما أساس الدعم الألماني لأوكرانيا في حربها ضد روسيا.
وعلاوة على ذلك، تأتي التهديدات الإمبريالية من ترامب لحلفاء بلاده في الناتو: فهو يريد أن يجعل من كندا الولاية الأمريكية الحادية والخمسين، وأن يشتري جزيرة غرينلاند من الدنمارك أو أنه سيحصل على الجزيرة عنوة من خلال الضغوط العسكرية أو الاقتصادية ويضمها للولايات المتحدة. هذا أيضا انتقده المستشار أولاف شولتس بشدة. وأخيرا فرض الرسوم الجمركية على المنتجات الأوروبية، سيؤثر بشكل كبير على ألمانيا التي يعتمد اقتصادها على التصدير.
ميرتس: على أوروبا أن تستيقظ
كل هذا يعني: أن ترامب ورجاله قد وجهوا الضربة تلو الأخرى للأوروبيين خلال أسابيع قليلة. لكن ماذا يعني هذا للعلاقات عبر الأطلسي؟ مبعوث ترامب إلى روسيا وأوكرانيا، كيث كيلوغ، حاول خلال مشاركته في برنامج حواري لـ DW توضيح الموقف الأمريكي بقوله "نحن نقول أمريكا أولا، ولكن لم نقل أبدا أمريكا وحدها. لم نقل أبدا أننا نقود سياسة انعزالية". ترامب أيضا قال بوضوح "حين تقاتل أمة من أجل سيادتها، فإننا سنقف إلى جانبها".
لكن في برلين وعواصم أخرى، بدأ الأوروبيون يدركون أنهم يجب أن يعتمدوا على أنفسهم أكثر في المستقبل، وقد أشار إلى ذلك المستشار شولتس قبل مشاركته في لقاء لقادة أوربيين في باريس يوم الاثنين (17 شباط/ فبراير) بقوله "يجب أن نضمن أن أوروبا ستواجه التحديات مستقبلا بطريقة قوية وسيادية".
وبدوره قال خليفة شولتس المحتمل فريدريش ميرتس في وقت سابق، إنه إذا أصبح مستشارا سيحول ألمانيا من "قوة متوسطة نائمة " إلى "قوة متوسطة رائدة". والآن يرى أنه مصيب، وقال في حوار مع DW "يجب أن نقوم بهذا الدور، بالتعاون مع الآخرين، مع فرنسا مع بولندا. أوروبا تنتظر من ألمانيا القيادة، وخاصة في وضع مثل هذا، حيث تنسحب أمريكا تدريجيا، وربما تنسحب كليا، والآن هو الوقت المناسب. على أوروبا أن تستيقظ وتتولى بنفسها مسؤولية أمنها".
أعده للعربية: عارف جابو