دبابات بدلا من السيارات: كيف يغير التسلح سوق العمل الألماني؟
٣٠ مارس ٢٠٢٥يعاد خلط الأوراق في الصناعة الألمانية: ففي حين تفقد الشركات الألمانية الرائدة مثل "فولكس فاغن" وظائف، يبحث منتجو الدبابات والصواريخ المجنحة بشكل مُلحّ عن موظفين جدد.
وتُقدِّر دراسة حديثة أجرتها شركة الاستشارات "إي واي" وبنك "ديكابنك" أن "دول حلف شمال الأطلسي (الناتو) في أوروبا ستستثمر، وفقاً للوضع الحالي، ما يقرب من اثنين وسبعين مليار يورو سنوياً في قطاع التسلح خلال السنوات القادمة، مما سيوفر أو سيحافظ على نحو ستمائة وثمانين ألف وظيفة في أوروبا."
وتوصلت دراسة أخرى أجرتها شركة الاستشارات "كيرني" إلى نتائج مماثلة. إلا أن العدد الدقيق للمتخصصين المطلوبين يعتمد على مدى تعزيز دول الناتو الأوروبية لقدراتها العسكرية. فإذا خصصت هذه الدول مستقبلاً نسبة اثنين في المائة من ناتجها المحلي الإجمالي للإنفاق الدفاعي، وفقاً للوائح الناتو، فسيكون هناك نقص بنحو مائة وستين ألف متخصص بحلول عام ألفين وثلاثين.
أما في حال زيادة هذه النسبة إلى اثنين ونصف في المائة، فقد يصل عدد الوظائف الشاغرة إلى أربعمائة وستين ألفاً، وفي حال ارتفاعها إلى ثلاثة في المائة، قد يرتفع العجز إلى سبعمائة وستين ألف وظيفة، وفقاً لما كتبه مؤلفا الدراسة غيدو هيرتل ونيلس كولفاين. ويُعد النقص الأكبر في المتخصصين في مجالات الذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات الضخمة.
ولتوضيح السياق: يبلغ عدد موظفي شركات التسلح مثل "راينميتال" وغيرها في ألمانيا حالياً نحو ستين ألف موظف، وعند احتساب المورّدين، يصل العدد إلى ما يقرب من مائة وخمسين ألفاً، وفقاً لما ذكره كلاوس-هاينر رُهل، الخبير في شؤون التسلح لدى معهد الاقتصاد الألماني (IW) المقرب من أرباب العمل.
من أين سيأتي العاملون؟
لا يبحث مصنعو المدافع وتقنيات الرادار والمركبات المدرعة عن عمال جدد فحسب، بل يسعون أيضًا إلى مواقع إنتاج جديدة تحسبًا للطلب المتزايد المتوقع. فما الخيار الأقرب من الاستفادة من القطاعات المتعثرة؟
يقول أوليفر دورّا، الرئيس التنفيذي لشركة "هينسولت"، في مقابلة مع وكالة رويترز: "نحن نستفيد من صعوبات قطاع صناعة السيارات." وتنتج الشركة البافارية رادارات عالية الأداء تُستخدم، على سبيل المثال، في الدفاع الجوي في أوكرانيا. بل إن أحد أنظمة "هينسولت" قادر على رصد القاذفات الشبح مثل الطائرة الأمريكية F35 .
ويؤكد دورّا أن هناك بالفعل محادثات جارية مع موردي قطع غيار السيارات "كونتيننتال" و"بوش" حول إمكانية استيعاب موظفيهم.
وفي مدينة غورليتس الواقعة شرق ألمانيا على الحدود مع بولندا، استحوذت مجموعة التسلح "KNDS" على مصنع تابع لشركة القطارات "ألستوم"، حيث كان يتم تصنيع القطارات، وكان من المقرر إغلاقه بحلول عام 2026.
وتسعى "KNDS" إلى استيعاب نحو نصف العاملين البالغ عددهم سبعمائة شخص. وتخطط الشركة لإنتاج أجزاء ومكونات لدبابات "ليوبارد 2" و "بوما" و "بوكسر" في هذا المصنع السابق، على أن تبدأ عمليات التصنيع عام 2025.
أما المنافس "راينميتال" فيعتمد أيضًا على توظيف أشخاص من مجالات أخرى: فمثلاً، أحد الفنيين الذين كانوا يصنعون سابقًا مكونات خاصة لصناعة النفط، يقوم الآن بإنتاج سبطانات المدافع للدبابات في أحد مصانع "راينميتال" في شمال ألمانيا. بل إن إحدى خبيرات التجميل السابقات تعمل الآن في طلاء القذائف المدفعية.
ما الممكن وما غير الممكن؟
ليس من السهل الانتقال من قطاع مدني إلى صناعة التسلح، كما توضح إيفا بروكنر في مقابلة مع DW. وتقول مستشارة التوظيف، المتخصصة في قطاع الأمن والدفاع: " يمكن الانتقال فقط إلى وظائف ومهام معينة."
فعلى سبيل المثال، يمكن للعامل الفني الذي يعمل على خط الإنتاج في شركة "فولكس فاغن" أو غيرها أن يجد عملاً في بعض شركات التسلح. كما أن مهندس التطوير يمكنه، بعد فترة تأهيل معينة، العمل في هذا المجال، وفقاً لما توضحه بروكنر، المديرة التنفيذية لشركة التوظيف "هاينريش آند كول" في ميونيخ.
لكن في وظائف أخرى، يكون الانتقال شبه مستحيل، مثل المختصين في المبيعات أو المشتريات. وتوضح بروكنر: "لا يمكن ببساطة نقل مسؤول مشتريات من صناعة السيارات، حيث يتوقع أن يلبي الموردون طلباته فوراً، إلى قطاع التسلح الذي يعمل بأسلوب مختلف تماماً."
الفحص الأمني يقلّص عدد المرشحين
من جانبه، يشير هانس كريستوف أتسبودين، المدير العام لاتحاد الصناعات الأمنية والدفاعية الألمانية، إلى ميزة خاصة بشركات التسلح: فالكثير من الوظائف تتطلب اجتياز فحوص أمنية صارمة، وهذه الفحوص تستغرق وقتاً طويلاً. ويؤكد قائلاً: "مدة الموافقة على هذه التصاريح ليست كافية حالياً لتسهيل انتقال الموظفين بسرعة."
كما تلعب "قائمة الدول" دوراً مهماً في هذا السياق. حيث تفرض ألمانيا متطلبات عالية على المتقدمين من دول تشكّل مخاطر أمنية كبيرة. وتضم القائمة، الصادرة عن وزارة الداخلية الألمانية، دولاً مثل أفغانستان، الصين، فيتنام، العراق، إيران، سوريا، روسيا والجمهوريات السوفييتية السابقة.
ويكفي أن يكون الشخص قد أقام لفترة طويلة في إحدى هذه الدول، ليصبح توظيفه في قطاع التسلح غاية في الصعوبة.
هل تتجه العقول الأمريكية إلى أوروبا؟
لن تتمكن ألمانيا وأوروبا من إيجاد العدد الكافي من المتخصصين بسرعة، مما يفتح الباب أمام الولايات المتحدة، كما تقول إيفا بروكنر. وتوضح: "بسبب إعلان ترامب عن خطط لخفض التمويل المخصص للمعاهد البحثية والجامعات، فقد أتيحت فرصة لأوروبا."
فحتى الآن، جذبت الجامعات الأمريكية المرموقة والميزانيات البحثية الضخمة ألمع العقول من جميع أنحاء العالم. لكن مع تقليص التمويل، تصبح الفرصة متاحة لأوروبا لتقول: "نحن الآن المحرك الابتكاري، وسنستقطب هؤلاء الخبراء."
وتضيف بروكنر أنها تلقت بالفعل طلبات من الولايات المتحدة، حيث لم يتم تمديد تصاريح الإقامة (غرين كارد) لبعض الخبراء، أو لم يعودوا يشعرون بالتقدير في وظائفهم الأمريكية.
وتتابع: "الكثير منهم يتساءل عما إذا كانوا يريدون الاستمرار في النهج السياسي والجيوسياسي الجديد للولايات المتحدة." وترى أن هذه "فرصة ذهبية يجب استغلالها، لأن أوروبا يمكنها استقطاب عقول لامعة حقاً."
الحاجة إلى شخصيات متحفظة وخبراء رقميين
وترى بروكنر أن القطاع الدفاعي يجب أن يتخذ اتجاهاً جديداً في التوظيف. فوجود عدد أكبر من النساء في المناصب القيادية، التي يسيطر عليها في الغالب ضباط سابقون، سيكون أمراً إيجابياً. وتوضح قائلة: "نحن بحاجة إلى أشخاص متحفظين، يعملون في الظل، ولا يسعون إلى الأضواء، لأن التعامل مع القضايا الأمنية يتطلب ذلك."
كما أن التحول الرقمي يُغيّر معايير التوظيف، وفقاً للمستشار الإداري نيلس كولفاين. فالمطلوبون بشدة اليوم هم المختصون في تكنولوجيا المعلومات والذكاء الاصطناعي، خاصة في ربط أنظمة الأسلحة الحديثة واستخدام البيانات الضخمة في تحليل المشهد العسكري.
بيد أنه يؤكد أن هؤلاء الخبراء نادرون جداً، قائلاً: "قطاع الدفاع كان يعتمد تقليدياً على الأنظمة التناظرية، والآن يفتقر إلى العقول الرقمية."
أما فيما يتعلق بالأجور، فتؤكد إيفا بروكنر أن الشركات ستضطر إلى تقديم رواتب أعلى لجذب الكفاءات المطلوبة: "أنا متأكدة من أن الشركات ستضطر إلى رفع الرواتب مجدداً."
أعده للعربية : عباس الخشالي