حين يكسو الصحراء بساط من الخضرة والزهور
١٠ يوليو ٢٠٠٦قبل أن يبدأ مهندس الحدائق الألماني ريشارد بوديكر عمله في الربع الخالي، كانت العاصمة السعودية صحراء قاحلة تفتقر إلى كل ما هو أخضر. أمّا اليوم، فإن مدينة الرياض أصبحت اسما على مسمى تزخر بفضل المهندس الألماني بالمتنزهات الضخمة الخضراء، التي سرعان ما تحولت لدى السعوديين إلى أماكن محبوبة يقضون فيها أوقات فراغهم في ايام الطقس المعتدل. ويبدو أنّ هذا المهندس قد أحب البلاد وأهلها، حيث عقد في السنوات الطويلة التي قضاها في المنطقة صداقات حميمة مع الكثير من السعوديين وفي مقدمتهم العائلة المالكة، ناهيك عن تحوله إلى خبير في عادات وتقاليد المجتمع العربي، كما اتضح للزميل فيليب شنايدر الذي تسنت له فرصه زيارته في منزله في ألمانيا والحديث معه عن طبيعة عمله في المنطقة.
بداية المشوار
ربما كان ريشارد بوديكر البالغ من العمر 72 عاما أكثر علما بأقل المناطق خصوبة في العالم من أي شخص آخر. فهو متخصص منذ الستينيات في تحويل المناطق الجافة الخالية من السكان إلى رياض مزهرة. وأول مشروع قام به كان في اليونان، حيث بدأ مشواره مهندسا ومصمما عالميا للحدائق. وفي عام 1973 كانت أول زيارة له إلى الصحراء الجافة والمغبرة في المملكة العربية السعودية. الملك السعودي فيصل كان قد زار المدن الأوروبية الكبرى بعد الحرب العالمية الثانية وذهل لجمال المتنزهات والحدائق فيها. وحين اكتشف النفط في المنطقة وتدفقت المليارات على خزائن دولها، أخذ الملك فيصل بالبحث عن مهندسين ومصممين أوروبيين قادرين على تغيير صورة مدينة الرياض بإضفاء الخضرة عليها. ويصف بوديكر انطباعه الأول عن السعودية قائلا: " أول فكرة خطرت في ذهني لدى وصولي، أن هذه المنطقة وإن أردنا جعلها جميلة فعلا، فهي ليست بحاجة إلا إلى الحدائق والأشجار التي تطرح الظل في الصحراء الحارة." وقد رسا العطاء على بوديكر لأنه قد أرسل آنذاك تصميما فريدا من نوعه، يظهر مدينة الرياض على أنها واحة مزهرة. فكرة تفتقر فعلا إلى الواقعية في منطقة تعرف بافتقارها إلى الماء. ويقول بوديكر: " لم يصدقني أحد في بادئ الأمر، فقد قمنا بتلوين المدينة باللون الأخضر على الورق، وكنا نكرر دوما عبارة " سنفلح في ذلك". غير أننا لم نكن ندرك آنذاك مدى نجاحنا هذا، وهو أن الأشجار هناك تنمو بسرعة تبلغ خمسة أضعاف عن سرعة نموها في أوروبا، شريطة أن نقوم بعملنا بشكل صحيح طبعا." وبوديكر قد أحسن عملا، إذ قام باستخدام مياه المدينة القذرة بعد تصفيتها لغرض السقاية. ونجد اليوم عددا لا بأس به من الحدائق في المملكة العربية السعودية ساهم بوديكر بتصميمها.
مشروع عملاق
يستذكر بوديكر اليوم أكبر مشروع قام به في المملكة العربية السعودية قبل عشرين سنة، حين كلفته الأسرة المالكة بتصميم حي الدبلوماسيين في مدينة الرياض، فحوله بدوره من أرض صحراوية بائسة إلى أجمل حي في المدينة كلها. ويقول بوديكر واصفا المشروع: "وقفنا فجأة أمام قطعة أرض قاحلة مساحتها 900 هكتار لا يسكنها سوى ثلاث قبائل بدوية كانت جمالها ومواشيها لا تكاد تجد عشبة خضراء في أفضل أيام الربيع فيها. وأول عمل قمنا به هو إخراج هذه القبائل ومواشيها من المنطقة، ولما أمطرت السماء لأول مرة بدأ كل شيء ينمو ويزهر."
وهكذا بدأت رؤية بوديكر تتحقق: فقد أنشأ 28 متنزها و40 طريقا للمشاة إضافة إلى حدائق ومساحات خضراء أقام فيها مدارس ومراكز رياضية ومساجد، كما زرعت 10000 نخلة على أرصفة الشوارع. الناس في مدينة الرياض مندهشون فعلا من المتنزهات التي أنشأها بوديكر، لدرجة أن الحي الجديد أضحى مكانا محبوبا لديهم، يقضون به عطلات نهاية الأسبوع، حتى قبل الانتهاء من العمل به. وقد أعجبت الأوساط المتخصصة كل الإعجاب بإنجازات بوديكر في الصحراء. واعترافا منها بمنجزاته في مشروع حي الدبلوماسيين قدمت له جائزة آغا خان التي تمنح مرة كل ثلاث سنوات والمخصصة لمشاريع البناء الهامة في العالم الإسلامي. ومن الجدير بالذكر أن بوديكر أول مصمم للحدائق يحصل على هذه الجائزة.
الحديقة كالطفل بحاجة إلى رعاية
يسافر بوديكر عشر مرات في السنة إلى المملكة العربية السعودية لعدة أسابيع وذلك من أجل متابعة عملية نمو مشاريعه العظيمة: " للاستمرارية في مهنتي أهمية عظيمة، لأننا نعمل مع كائنات حية والنباتات هي كذلك. فحين يقوم المرء بإنشاء حديقة ما، فإن ذلك يعني أن للمرء الآن طفلا بحاجة إلى الرعاية ولا بد إذن من السهر على نمو وترعرع هذا الطفل." بوديكر ترك آثارا خضراء على رمال الصحراء وعقد صداقات كثيرة مع الأسرة المالكة هناك، ولعل أفضل صديق له في المنطقة الأمير سلطان بن سلمان بن عبد العزيز آل سعود، الذي يكاد لا ينقطع عن مناقشة بوديكر عن كيفية إنشاء حديقة متكاملة تطابق وصف القرآن الكريم لجنة عدن. وبالمناسبة فإن حديقة الأمير قد صممها بوديكر أيضا. ولكن أفضل مكان للجلوس بالنسبة لبوديكر هي حديقته الخاصة التي يستعملها كورشة للعمل وكمصدر للإلهام من أجل مشاريعه العالمية.