جرائم النازية.. فشل أم سوء فهم لثقافة الذكرى في ألمانيا؟
٢٥ يناير ٢٠٢٥تنكيس الأعلام ووضع باقات الزهور أمام منصة المتحدثين في البرلمان (البوندستاغ) وإلقاء كلمات وتصفيق حار، والكثير من النواب والضيوف يرتدون ملابس سوداء اللون. إنه مشهد يتكرر كل عام في السابع والعشرين من يناير/ كانون الثاني في ألمانيا، حيث يتم إحياء ذكرى ضحايا النازية، ويعرف هذا اليوم عالميا باسم ذكرى المحرقة (الهولوكوست). إنه ذكرى يوم تحرير معسكر الاعتقال في أوشفيتز في السابع والعشرين من يناير 1945. وهذا التخليد يعد عنصرا أساسيا في ثقافة الذكرى الألمانية.
يوجد في ألمانيا 300 موقع تذكاري ومراكز توثيق لجرائم النازية، ويتم تدريس تاريخ النازية في المدارس. والبعض يزور المواقع التذكارية لمراكز الاعتقال النازية في ألمانيا، ويتم خلال تلك الزيارات الحديث وشرح الجرائم الفظيعة التي تم ارتكابها في تلك المراكز.
كانت هناك محاكمات واسعة النطاق لجرائم الحرب مثل محاكمات أوشفيتز، وتتبعت المتورطين في جرائم النازية. وحتى يومنا هذا، تتم ملاحقة حراس مؤسسات القتل النازية الطاعنين في السن قضائيا.
إنه تذكير بأحلك فصل في تاريخ ألمانيا. ألمانيا النازية أشعلتالحرب العالمية الثانية التي قتل فيها الملايين، وكانت ألمانيا النازية مسؤولة عن القتل المنهجي لستة ملايين يهودي أوروبي، بالإضافة إلى قتل مئات آلاف آخرين من السنتي والروما والمعارضين للنظام النازي والمثليين والأشخاص ذوي الإعاقة.
ما هي ثقافة الذكرى الألمانية؟
بطرح هذا السؤال على المحللة السياسية والكاتبة سابا نور شيما، فإن الإجابة تبدو بسيطة، بقولها "ثقافة الذكرى هي معرفة جماعية بالماضي وتذكره. وعلى وجه التحديد فيما يتصل بألمانيا، فهي تشكل عنصرا أساسيا في تذكر المحرقة والتعامل مع النازية" وفي السنوات الأخيرة، أصبحت ذكريات دكتاتورية الحزب الشيوعي في ألمانيا الشرقية وفترة الاستعمار أيضا سائدة.
قد يعتقد الشباب أن ألمانيا كانت دائما تهتم بثقافة الذكرى. وينقل عن فريتس باور، المدعي العام الذي أحال جرائم أوشفيتز إلى العدالة في فرانكفورت، قوله في الستينيات: "عندما أغادر مكتبي، تبدأ أرض العدو". وقد تمكن باور، وهو يهودي، من الناجين من الحقبة النازية، بالفرار إلى السويد. ولم يتم إحياء ذكرى ضحايا النازية في ألمانيا إلا عام 1996، ولم يصبح هذا اليوم عطلة رسمية أبدا.
خطر اليمين يهدد الذكرى وإحياءها
حتى اليوم لا يزال إحياء ذكرى جرائم النازية هدفا للعداء، وخاصة من جانب اليمين المتطرف والشعبوي. فمدير النصب التذكاري في بوخنفالد وميتلباو دورا، ينس كريستيان فاغنر، يقف بشكل واضح ضد حزب البديل من أجل ألمانيا الذي يعتبر فرعه في ولاية تورينغن يمينيا متطرفا، وبسبب ذلك يتعرض للتهديد، حسبما كتب في تغريدة على موقع إكس: "تقريبا كل النصب التذكارية تواجه التخريب وإنكار المحرقة. لكن ما يمكن للمرء مشاهدته، هو أن النقاش في الموقع قد ازداد حدة".
وتقول فيرونيكا هاغر من مؤسسة الذاكرة والمسؤولية والمستقبل (EVZ): "التصريحات التي كنا نرفضها كمجتمع قبل عشر سنوات على أنها متطرفة نسبيا، تحظى الآن بكثير من التأييد".
فقبل فترة قصيرة قالت أليس فايدل، رئيسة حزب البديل من أجل ألمانيا اليميني الشعبوي في مقابلة تلفزيونية "لا شك في أن أدولف هتلر كان اشتراكيا معاديا للسامية، ومعاداة السامية يسارية في المقام الأول". ويأتي هذا التصريح متوافقا مع تصريحات سابقة لزملائها في الحزب بأن النازية كانت مجرد "فوضى في التاريخ".
وترى شيما أن "الهدف من ذلك هو تخفيف حدة الأمور، بحيث لا نتكلم في النهاية عما حدث. مع خطورة، أن خطر المجموعات اليمينية القومية لا تبدو ملموسة وغير محددة".
هل فشلت ثقافة الذكرى؟
ميشيل فريدمان، واحد من الكتاب الذين يشيرون منذ سنوات إلى تزايد معاداة السامية. إنه ينتقد ثقافة الذكرى بحدة، وقال في مقابلة سابقة مع مجلة "دير شبيغل" الألمانية "لو أننا قمنا بواجبنا، لما كانت هناك اليوم هذه الكراهية الوحشية والوقحة لليهود".
وبالنسبة إليه، وهذا ما تعبر عنه غالبا منظمات وجمعيات يهودية، فإن ثقافة الذكرى الألمانية طقسية للغاية ومتجذرة في الماضي. "من المهم التعامل مع اليهود الأموات، لكن مسؤوليتنا يجب أن تكون تجاه اليهود الأحياء، والحياة في ألمانيا بالنسبة إلى هؤلاء ليست جيدة".
لا يوجد حل لمعاداة السامية!
لم ترتفع أعداد الهجمات المعادية للسامية في ألمانيا بشكل كبير منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، يوم الهجوم الإرهابي الذي شنته حماس على إسرائيل والذي أسفر عن مقتل 1200 شخص. وبالنسبة للبعض، يعد هذا دليلاً على فشل ثقافة الذكرى.
يذكر أن حركة حماس، هي مجموعة مسلحة فلسطينية إسلاموية، تصنفها ألمانيا والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة ودول أخرى كمنظمة إرهابية.
ثقافة الذكرى وحماية الحياة اليهودية، غالبا ما يتم التفكير فيهما معا في ألمانيا. إن الدروس المستفادة من الماضي يجب أن تؤدي إلى تحمل المسؤولية اليوم. ورغم أن هذا الربط صحيح جزئيا، فإنه يطالب ثقافة الذكرى بشيء لا تستطيع تحقيقه، كما يقول جوزيف ويلسون، المتخصص في "التصرف ضد معاداة السامية" في مؤسسة الذاكرة والمسؤولية والمستقبل (EVZ).
"ثقافة الذكرى ليست هي نفسها منع ومكافحة معاداة السامية" يقول ويلسون. إن التعاطف الذي قد يشعر به المرء عند زيارة موقع تذكاري لا ينتقل تلقائيا إلى الحاضر، ولا يقود الناس إلى التعرف على الرموز المعادية للسامية ونظريات المؤامرة. ويوضح ويلسون بأنه "بدلاً من ذلك، يتعين علينا الاعتراف بأن مفاهيمنا للوقاية من معاداة السامية قد فشلت جزئياً".
واحدة فقط أم العديد من ثقافات الذكرى؟
شهدت ثقافة الذكرى في ألمانيا العديد من الخلافات. كانت هناك خلافات ومناقشات كثيرة بين المؤرخين حول خصوصية جرائم النازية. لا شك أن السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023 والحرب التي تلتها في غزة والتي أسفرت عن آلاف القتلى تمثل نقطة تحول أخرى، وذلك لأنها كشفت عن نواقص في ألمانيا أيضا.
وإحدى تلك النواقص، هو مدى اختلاف استخدام عبارة "لن يتكرر الأمر مرة أخرى". ويعني ذلك أن فظائع النازية يجب ألا تتكرر. ويستمد كثيرون من هذا الشعور التضامن مع اليهود. لكن هذا الشعار يتم ترديده في المظاهرات المؤيدة للفلسطينيين أيضا.
منذ خطاب أنغيلا ميركل الشهير في البرلمان الإسرائيلي (الكنيست) عام 2008، والذي أعلنت فيه أن أمن إسرائيل هو قضية الدولة الألمانية، أصبحت مسؤولية بقاء الدولة اليهودية تعتبر في كثير من الأحيان جزءا من ثقافة الذكرى. وبالنسبة للبعض، يعد هذا مؤشرا على أن ثقافة الذكرى الألمانية ليست شاملة وليست مصممة لمجتمع هجرة حديث.
سابا نور شيما لا تتفق مع ذلك وتقول "لا أستطيع القول إن هذا الأمر غير مصمم لهذا الغرض. لأن المجتمع المدني يشكل ثقافة الذكرى نفسها". ولكن التبرير الذي قدم في بداية حرب غزة بأن ألمانيا كانت إلى جانب إسرائيل فقط بسبب التاريخ، أدى إلى "انتقادات بين العديد من الشباب المهاجرين". وسألوا أنفسهم: "لماذا يعاني الفلسطينيون كل هذا الآن؟ وليس سيئا أبدا طرح مثل هذا السؤال".
على سبيل المثال، ترى سابا نور شيما أن شعار "حرروا فلسطين من الذنب الألماني"، الذي تم رفعه في المظاهرات وخاصة في برلين، هو رسالة سياسية، وليس هجوما على ثقافة الذكرى. من ناحية أخرى، يصف مركز الأبحاث والمعلومات حول معاداة السامية هذا الشعار في تقريره بأنه "رغبة في الوصول إلى وضع حد (للحديث) عن الماضي النازي".
ولعل مثل هذه النقاشات تشير إلى أنه ليست هناك ثقافة ذكرى واحدة في ألمانيا، وإنما العديد منها.
ويبقى إحياء الذكرى مهما
بالنسبة إلى فيرونيكا هاغر، يمكن أن يبدو أحد المخارج على هذا النحو: "هناك الكثير من الأشياء في محيطنا التي يمكننا أن ننظر إليها بطريقة محددة للغاية". وما لا تتم مناقشته عموما في ألمانيا هو السيرة الذاتية لمرتكبي الجرائم في عائلاتهم. وقد عبر ميشيل فريدمان ذات مرة عن الأمر على هذا النحو: "أتعلم، أن هناك الملايين من الشهود المعاصرين! انظر إلى ما فعله أجدادك وخالاتك وأعمامك!"
وقد يكون هذا بمثابة خطوة تالية في ثقافة الذكرى في ألمانيا. وتقول هاغر: "لا أريد أن نصل إلى النقطة التي نقول فيها: حسنا، لدينا الآن ثقافة ذكرى مثالية وسوف نقوم بإنجازها"، وتضيف "بالنسبة إلي، الأمر هو دائما شيء يتحرك ويتطور."
أعده للعربية: عارف جابو