أخيرا وبعد أكثر من عامين على فراغ رئاسي، تمكن مجلس النواب اللبناني في (9 يناير/ كانون الثاني 2025) من انتخاب رئيس للجمهورية اللبنانية، وهو قائد الجيش اللبناني السابق جوزيف عون. وبعد ذلك بنحو شهر تشكلت حكومة جديدة برئاسة نواف سلامالذي شغل سابقا منصب رئيس محكمة العدل الدولية. ويبدو ان الانتخاب والتشكيل انعشا الآمال بقدرة بلاد الأرز على البدء بمعالجة الأزمة المالية والاقتصادية الخانقة التي تعصف بالبلاد منذ خمس سنوات. ويدل على ذلك النظرة الإيجابية التي بدأت تتبلور من جهة مستثمرينومنظمات دولية مانحة تجاه مناخ العمل والاستثمار في البلاد. ويعزز هذه النظرة التحول التاريخي الذي شهدته منطقة الشرق الأوسط على ضوء سقوط نظام بشار الأسد ووقف إطلاق النار في لبنان وقطاع غزة.
مبعث الآمال الجديدة بانتعاش الاقتصاد
فعليا وعلى أرض الواقع تشير المعطيات الأولية إلى ترجمة هذه النظرة ببعض الخطوات التي يمكن أن تزداد وتيرتها خلال الأسابيع أو الأشهر القليلة القادمة. فهناك على سبيل المثال إقبال دولي متزايد على السندات الحكومية/ اليوربوند كدليل ثقة بالحكومة الجديدة وانعكاسا للحديث عن الدعم الخارجي وخاصة السعودي لها. وعلى ضوء الإقبال المتزايد على هذه السندات سيكون بإمكان بيروت بيع المزيد منها لتحقيق أهداف تنموية والوفاء بمتطلبات أساسية للخدمات العامة.
وينتظر الكثير من المستثمرين إعادة هيكلة الديون لعودة النشاط في السوق اللبنانية. وتتوقع مؤسسة "اكسا انفستمينت ماندجرز" أن تحدث أمورا هامة إيجابية على هذا الصعيد خلال العام الجاري 2025، وإن كان حدوث ذلك ليس بالأمر السهل"
بوادر دعم أوروبي ودولي مشروط
في سياق متصل أعلن الاتحاد الأوروبي قبل أيام عن استعداده لصرف 500 مليون يورو لدعم قطاعات خدمية أساسية كالتعليم والصحة ومن أجل مكافحة الهجرة. ويشكل المبلغ نصف مجمل مساعدات بقيمة مليار يورو أقرتها بروكسل العام الماضي. غير أن الاتحاد أضاف بأن تقديم هذا المبلغ مرهون بإعادة هيكلة القطاع المصرفي اللبناني والتوصل إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي بهذا الخصوص. وقالت المفوضة الأوروبية لشؤون المتوسط دوبرافكا شويتزا أن النصف المتبقي بقيمة نصف مليار يورو تم دفعه في أغسطس/ آب من العام الماضي.
بدوره لم ينتظر صندوق النقد الدولي طويلا للتعبير عن استعداده لدعم لبنان مجددا، إذ عبر ممثله في بيروت عن الاستعداد لبدء مفاوضات مع الحكومة اللبنانية الجديدة بشأن برنامج يتم من خلاله تقديم قروض جديدة في إطار القيام بإصلاحات عميقة طال انتظارها. ويتطلع الصندوق حسب وكالة فرانس برس إلى العمل مع الحكومة الجديدة لمعالجة التحديات التي تواجه الاقتصاد اللبناني، ومن ضمن ذلك استعادة القدرةعلى سداد الديون" الضخمة التي يعاني منها لبنان.
ويقدر حجم الدين الخارجي بنحو 62 مليار دولار حسب مؤسسة التجارة الخارجية والاستثمار الألمانية. أما الدين العام فيزيد حجمه على 100 مليار دولار، وهي من أعلى نسب الدين في العالم الناتج المحلي الإجمالي المقدر بنحو 24 مليار دولار عام 2023.
تداعيات الأزمة الاقتصادية على الاقتصاد والناس
ما تزال الأزمة المالية والاقتصادية التي يعاني منها لبنان منذ خمس سنوات تلقي بظلالها الكارثية على مختلف القطاعات والأصعدة ومن بينها على سبيل المثال لا الحصر تدهور سعر صرف الليرة وارتفاع نسب التضخم إلى مستويات تراوحت بين 150 وأكثر من 220 بالمائة سنويا. وهو الأمر الذي أدى إلى تدهور مستوى المعيشة وجر أكثر من ثلثي المجتمع اللبناني إلى خط الفقر، لاسيما وأن البنوك اللبنانيةأعلنت أنها غير قادرة على الوفاء بمتطلبات المودعين لديها فحرمتهم من سحب أموالهم باستثناء مبالغ ضئيلة لضمان الحد الأدنى من المعيشة. ويتهم قطاع المصارف في لبنان بالفساد وضعف الشفافية وغسيل الأموال في ظل إدارات حكومية ينخر فيها الفساد أيضا لأٍسباب من أبرزها عقود من المحسوبيات والصبغة الطائفية لشغل الوظائف.
كما أن الانفجار الذي دمّر أجراء واسعة من مرفأ بيروت الأساسي في البلاد والحرب السورية أصابت الاقتصاد اللبناني بأضرار جسيمة، لاسيما وأن سوريا طريقه البري إلى دول الخليج والعراق والأردن التي شكلت سابقا السوق الرئيسية للصادرات اللبنانية وعلى رأسها المنتجات الغذائية. ويقدر البنك الدولي الأضرار التي لحقت لبنان جراء الحرب الأخيرة مع إسرائيل بنحو 8.5 مليار دولار. ويزيد الطين بلة تدهور البنى التحتية بما في ذلك الكهرباء والمياه والنقل بشكل يعيق التنمية الاقتصادية ويزيد من تكاليف إقامة المشاريع ومن تكاليف الحياة اليومية.
الإصلاحات المطلوبة لتحقيق الاستقرار
منذ سنوات تكثر المطالب المحلية والدولية للبنان بتنفيذ الإصلاحات الأساسية وعلى رأسها مكافحة الفساد وزيادة الشفافية في مختلف القطاعات في مقدمتها القطاع المصرفي. إضافة إلى إصلاح الإدارات الحكومية وتسهيل الإجراءات البيروقراطية بالتوازي مع تحسين الخدمات الأساسية وعلى رأسها الكهرباء والمياه والنقل. غير أن الحكومات السابقة لم تفلح في تحقيق الإصلاحات المطلوبة لأسباب عديدة لعل من أبرزها الفراغ السياسي وعدم قدرة الأطراف المشاركة في صناعة القرار الحكومي على إيجاد قواسم مشتركة لدعم عملية الإصلاح بسبب تغليب المصالح الحزبية الضيقة على المصلحة العامة من خلال المناكفات والتجاذبات السياسية، ناهيك عن غياب الاستقرار الأمني وخاصة في منطقتي الجنوب والبقاع.
والسؤال هنا، هل ستكون حكومة نواف سلام قادرة على القيام بما عجزت عنه الحكومات السابقة؟
حكومة نواف سلام مقارنة بسابقاتها
ربما لا يميز حكومة نواف سلام أنها تمثل غالبية وأبرز القوى السياسية اللبنانية، فالذي يميزها عن سابقاتها أنها تضم وزراء تكنوقراط ليسوا أعضاء في أحزاب، ولكن لديهم كفاءة وخبرة مشهود لها في منظمات ومؤسسات دولية على أكثر من صعيد. وهو الأمر الذي يساهم في اتخاذ قرارات اقتصادية تتمتع بالاستقلالية بعيدا عن الضغوط والتجاذبات السياسية المباشرة.
وإضافة إلى هذه الميزة تتمتع الحكومة بنقطة قوة أخرى ربما تكون الأهم ألا وهي توفر إجماع عربي ودولي على دعمها. ويعد هذا الدعم أساسي ومفتاحي لإيجاد أي حل لمشاكل لبنان وعلى رأسها مشاكل المديونية التي بدون حلها لا يمكن تحقيق الاستقرار المالي وعودة عجلة الاقتصاد إلى الدوران. ويعزز هاتين النقطتين قدرة الاقتصاد اللبناني كاقتصاد حر يقوم على المنافسة ويعتمد بشكل كبير على الخدمات العابرة للإقليم على التكيف مع الأزمات وعلى الاستمرار في روح المبادرة والإبداع. ويدل ذلك أن القطاع المصرفي اللبناني ما يزال يتمتع بالقوة والتنوع رغم معاناته من الفساد وضعف الشفافية.
إشارات مشجعة من الرئيس والحكومة
تبدو الإشارات الأولى من الرئيس جوزف عون ومن الحكومة برئاسة نواف سلام مشجعة على طريق صعب وشائك من الإصلاحات المطلوبة لإعادة إنعاش الاقتصاد. ففي خطاب القسم تعهد الرئيس عون بالعمل على "إعادة هيكلة الإدارات العامة واستقلالية القضاء ومكافحة الفساد وضبط الحدود ومحاربة الإرهاب وتأكيد حق الدولة في احتكار حمل السلاح".
وفي البيان الوزاري للحكومة ذكر رئيسها نواف سلام أنه سيتم التفاوض مع صندوق النقد الدولي على برنامج جديد لمعالجة المديونية والتعثر المالي لافتا إلى أن "الودائع ستحظى بالأولوية وفق أهم المعايير الدولية لحماية حقوق المودعين". كما أكد على تطوير البنى الأساسية لقطاع النقل وعلى تطوير مطار رفيق الحريري ومرفأ بيروت".
بدوره وفي سياق متصل قال مصرف لبنان على لسان حاكمه بالإنابة وسيم منصوري أن المصرف سيتعاون مع الحكومة لوضع ما اسماه "خطة عادلة تهدف إلى إعادة أموال المودعين الذين حُرموا من أموالهم بسبب الأزمة الحادة التي ضربت البلاد عام 2019".
وهكذا تبدو الطريق مفتوحة ومشجعة أكثر من أي وقت مضى خلال السنوات الخمس الماضية أمام الحكومة الجديدة للبدء بالإصلاحات المطلوبة، والسؤال هنا هل ستمتلك الجرأة على ذلك، أم ستترك الساحة لعودة المشاحنات والمناكفات الحزبية الضيقة التي تعطل عملها وتفوت على البلاد فرصة قد تكون تاريخية.