برنامج تسليح الجيش.. فرصة لإنعاش اقتصاد ألمانيا المنهك؟
٦ يوليو ٢٠٢٥
الـ18 من آذار/مارس 2025 يوم سيُسجَّل في التاريخ الألماني. ففي ذلك اليوم، مهَّد البرلمان الألماني (بوندستاغ) الطريق بأغلبية الثلثين لاقتراض ديون غير مسبوقة. ومن المقرر أن تستثمر ألمانيا من هذه القروض خلال السنين القادمة 400 مليار يورو لتحسين بنيتها التحتية المتهالكة، و100 مليار يورو لحماية المناخ.
ومن المقرر أيضًا أن تستثمر ألمانيا من أجل الدفاع أموالًا أكثر بكثير، لم يتم وضع حد لها في المستقبل. إذ يجب تمويل كل ما نحتاجه لجعل ألمانيا وجيشها "قادرين على الحرب" - كما يطالب دائمًا منذ غزو روسيا لأوكرانيا وزير الدفاع الألماني بوريس بيستوريوس (من الحزب الاشتراكي الديمقراطي). وكذلك يسعى المستشار فريدريش ميرتس (من الحزب المسيحي الديمقراطي) إلى جعل الجيش الألماني أقوى جيش تقليدي في أوروبا.
ازدهار صناعة الأسلحة: صعود أسهم راينميتال
وهذه الأخبار رائعة بالنسبة للشركات العاملة في بناء الطرق والجسور ومد السكك الحديدية، أو التي تصنع كابلات الألياف الضوئية للإنترنت السريع. غير أنَّ صناعة الأسلحة هي المستفيد الأكبر من هذا القرار، بعد تراجع أهميتها على مدى عقود من الزمن بشكل متزايد في هيكل الاقتصاد الألماني.
ففي عام 2020 كان يمكن شراء سهم في شركة راينميتال، أكبر شركة لصناعة الأسلحة في ألمانيا، بملغ 59 يورو؛ وفي حزيران/يونيو 2025 تراوح سعر سهمها بين 1700 و1800 يورو. ويتوقع بنك يو بي إس (UBS) السويسري استمرار صعود أسهم راينميتال أكثر، ليصل سعر السهم إلى 2200 يورو.
الأمل في "برنامج ضخم لإنعاش الاقتصاد"
هذه أوقات ذهبية بالنسبة لهذا القطاع؛ ولكن مديريه يؤكدون على أنَّ الإنفاق على التسليح لا يفيد شركات صناعة السلاح وحدها. "لأنَّ الإنفاق على التسليح يعدّ برنامجًا ضخمًا لإنعاش الاقتصاد"، كما قال أوليفر دوره، رئيس شركة هنسولدت للصناعات الدفاعية، في فعالية بفرانكفورت في آذار/مارس 2025. وأضاف أنَّ زيادة الاستثمارات في الدفاع يمكن أن تنعش الاقتصاد الألماني.
وكذلك يأمل السياسيون في أن يؤدي ذلك إلى تحديث الصناعة وخلق حوافز جديدة للنمو الاقتصادي. ولكن لقد قلقل الاقتصاديون من نشوة هذه الآمال حتى خلال النقاش قبل قرار البوندستاغ. فقد كتب توم كريبس، أستاذ الاقتصاد بجامعة مانهايم، في بيان للجنة الميزانية في البوندستاغ أنَّ: "زيادة الإنفاق العسكري الحكومي ستعزز الاقتصاد الألماني، ولكن الحافز الاقتصادي سيكون معتدلًا".
اقتصاديون يحذرون: عوائد ضئيلة رغم ارتفاع الإنفاق الحكومي
والآن حدّد الأستاذ كريبس وزميله باتريك كاتسمارسيك هذا التقييم في دراسة. وذكرا أنَّ الإنفاق الحكومي الإضافي يؤدي إلى زيادة في الناتج المحلي الإجمالي تبلغ في أقصى حد نصف حجم هذا الإنفاق. وبمعنى آخر أنَّ كل يورو يتم إنفاقه من أموال الدولة يؤدي في أحسن الأحوال إلى نشاط اقتصادي إضافي بقيمة 50 سنتًا (نصف يورو).
وللمقارنة: الاستثمارات في البنية التحتية والتعليم، أو في توسيع البنية التحتية لرعاية الأطفال في دور الحضانة والمدارس، تُضاعف المال المستثمر إلى ضعفين أو حتى ثلاثة أضعاف. ويقول كريبس إنَّ: "عسكرة الاقتصاد الألماني المخطط لها تمثّل من وجهة نظر اقتصادية رهانًا محفوفًا بالمخاطر وعائده الاقتصادي الإجمالي منخفض".
النفقات العسكرية تشبه التأمينات
وتفسير ذلك ليس صعبًا. فعندما نصنع دبابة، فإنَّها إما أن تبقى مركونة في مكان ما، أو يتم تدميرها. ولا تنتج عنها أية قيمة اقتصادية إضافية. ولذلك النفقات العسكرية تشبه التأمينات، التي نعقدها للحصول على الحماية في حالات الطوارئ.
وفي المقابل عندما تستثمر الحكومة في طرق النقل، يمكن عبر هذه الطرق والجسور والسكك الحديدية نقل بضائع إلى مصانع، يمكن فيها تحويل هذه البضائع إلى منتجات يتم بيعها. وعند بنائها رياض أطفال وحضانات، يستطيع الآباء العمل وكسب المال. وفي المدارس يتعلم الأطفال والشباب من أجل المستقبل.
غياب المنافسة يؤدي إلى ارتفاع الأسعار
وإنتاج المعدات العسكرية أيضًا لا يؤدي حاليًا إلا إلى نمو اقتصادي محدود. بينما يزداد الطلب كثيرًا على صناعة الأسلحة الألمانية. ومثلًا بلغ حجم الطلبات لدى شركة راينميتال نحو 63 مليار يورو في الربع الأول من عام 2025. وقبل الحرب في أوكرانيا كان أقل من نصف هذا الرقم: نحو 24 مليار يورو. والشركات الأخرى في هذا القطاع تعمل أيضًا بشكل جيد وتستخدم كل طاقاتها الإنتاجية.
ويترتب على ذلك نتيجة مزدوة: فعندما يكون العرض محدودًا ولكن الطلب يزداد فإنَّ هذا وحده يؤدي إلى غياب المنافسة، وغالبًا ما يؤدي ذلك إلى ارتفاع الأسعار. وهذا ما يحذّر منه الاقتصاديون. فقد كتب كريبس وكاتشمارسيك أنَّ "زيادة النفقات الدفاعية لا تزيد من قدرات ألمانيا الدفاعية بقدر ما تزيد من أرباح شركات الدفاع".
دبابات بدل السيارات
ولكن الأمل في صفقات جيدة يثير أيضًا اهتمام قطاع الصناعات المدنية، وخاصةً التي تعاني من ضعف الوضع الاقتصادي. مثل شركة دويتس إيه جي (Deutz AG) في كولونيا، التي تصنع محركات للرافعات ومنصات الرفع، وكذلك للمركبات الزراعية والحفارات وغيرها من الآلات الكبيرة. وبسبب ضعف الاقتصاد، انخفضت مبيعاتها بنسبة 12 بالمائة عام 2024. وكانت دويتس تصنع محركات للمركبات العسكرية. والآن من المفترض أن تزيد إنتاجها هذا بشكل ملحوظ، بعد أن كان صغيرًا جدًا في السابق.
ولنأخذ مثلًا شركة فولكس فاغن التي تعاني مع أزمة مالية، واضطرت إلى تسريح آلاف الموظفين. وقد بات مصنعها في مدينة أوسنابروك على وشك الإغلاق. وتفكر راينميتال في إمكانية استخدامها هذا المصنع لتصنيع الدبابات أيضًا. ويُقال إنَّ هناك خططًا لإنتاج مركبات مضادة للرصاص.
تكنولوجيا الليزر لاعتراض المسيّرات
ولكن تغيير مجالات العمل ليس بهذه السهولة في شركات أخرى مثل شركة الهندسة الميكانيكية "ترومف". وهي شركة عائلية مسيحية يمنع عقدها مشاركتها في إنتاج الأسلحة. ولكن بيتر ليبينغر، رئيس مجلس إدارتها وأحد مالكيها، يريد تغيير ذلك. وفي هذا الصدد قال لصحيفة "هاندلسبلات" في مؤتمر ميونيخ للأمن: "يجب علينا إعادة تقييم مساهمتنا الضرورية في بناء ديمقراطية قادرة على الدفاع".
ولكن من الطبيعي أنَّ إعادة التوجه لها حتى في هذه الحالة أسباب تجارية. فهذه الشركة لديها خبرة واسعة في تكنولوجيا الليزر، ولكنها تُعاني من تراجع الطلبات. ومع ذلك من المؤكد أنَّ إنتاج تكنولوجيا الليزر لاعتراض المسيّرات سيزيد طلبات الشراء لديها.
قرار قد يفيد البحث العلمي والتطوير
وجميع هذه الأمثلة تعود بالفائدة على الاقتصاد؛ وذلك فقط من خلال تعويض الخسائر وعدم إحداث نمو إضافي. ولكن حتى الشركات التي يعتبر وضعها الاقتصادي جيدًا تتحوّل أيضًا إلى إنتاج الأسلحة. كما أنَّ الطلب على المورّدين كبير خاصةً في مجال تصنيع المعادن.
وزيادة النفقات الدفاعية يمكن أن تؤثر تأثيرًا إيجابيًا على البحث العلمي والتطوير. وقد أقرّ بذلك أيضًا الخبيران الاقتصاديان كريبس وكاتشمارسيك في دراستهما. وبحسب رأيهما لا بد من مراقبة أن يؤدي البحث العسكري إلى تحفيز التطورات التكنولوجية ليس فقط في قطاع الصناعات الدفاعية، بل كذلك في الاقتصاد المدني.
أعده للعربية: رائد الباش
تحرير: عبده جميل المخلافي