الناجية من الهولوكوست أنيتا لاسكر في عيد ميلادها المئة
١٧ يوليو ٢٠٢٥
أنيتا لاسكر فالفيش تعيش منذ قرن كامل. ولا تخاف من الموت، الذي كثيرًا ما اضطرت لمشاهدته أمام عينيها، لأنَّها يهودية تم ترحيلها من قبل النازيين إلى أوشفيتس أكبر معسكرات الاعتقال والإبادة النازية: والذي قتل فيه النازيون نحو 1.1 مليون شخص. لقد نجت أنيتا لاسكر - فالفيش لأنَّها كانت تجيد العزف على التشيلو.
ولعقود من الزمن رفعت صوتها بصفتها شاهدة معاصرة ملتزمة ضد معاداة السامية والتطرف اليميني والعنصرية. وكانت تصف في الفصول الدراسية كيف كان النازيون يستبعدون اليهود ويبيدونهم بشكل ممنهج. وهي ترى أنَّ واجبها "أن يكون الناجون صوتًا للملايين الذين تم إسكاتهم". ولهذا السبب فقد شاركت في مشروع "أبعاد في الشهادة"، الذي تُجيب فيه صور ثلاثية الأبعاد تفاعلية لناجين من الهولوكوست على أسئلة تتجاوز موتهم.
وتقول إنَّها عاشت فترة كانت فيها متفائلة بأنَّ نشاطها سيحدث فرقًا: "لقد تحدثت إلى آلاف التلاميذ والطلاب. وإذا تصرّف عشرة منهم فقط بشكل لائق، فسأكون راضية".
لم نسمع عن الهولوكوست من قبل؟
ولكن أنيتا لاسكر - فالفيش تشعر الآن باليأس، كما قالت ابنتها مايا لصحيفة "يوديشه ألغماينه تسايتونغ". وذلك بسبب زيادة معاداة السامية والتحول المتزايد نحو اليمين والوضع في الشرق الأوسط. وأضافت أنَّ والدتها لديها انطباع بأنَّ نشاطها كله لم يحدث أي فرق.
وإذا نظرنا إلى العالم من حولنا، يمكننا أن نفهمها. ليس فقط لأنَّ 12 بالمائة من الألمان الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و29 عامًا لم يسمعوا قط بالهولوكوست، كما أظهر استطلاع حديث أجراه مؤتمر المطالبات اليهودية؛ بل لأنَّ معاداة السامية تصاعدت في جميع أنحاء العالم منذ بدء إسرائيل عملياتها العسكرية في قطاع غزة.
وفي هذا الصدد قالت مؤخرًا لصحيفة زود دويتشه تسايتونغ: "هل يهم إن كنت يهودية؟. فأنا ببساطة إنسان".
"لم أكن أعرف أنَّني يهودية"
وُلدت أنيتا لاسكر في 17 تموز/ يوليو 1925 في مدينة بريسلاو لعائلة يهودية ألمانية من الطبقة المتوسطة، وهي أصغر شقيقاتها الثلاث. وكان أبوها محاميًا وأمها عازفة كمان. وكانا مهتمين بتعليم بناتها تعليمًا جيدًا، وكانت الموسيقى جزءًا منه. ولم يكن الدين يلعب أي دور في حياة عائلة لاسكر.
وتقول أنيتا لاسكر بعد عقود: "لم أكن أعرف أنَّني يهودية حتى تعرّضت للبصق وتم وصفي باليهودية القذرة. "لقد كنا ألمانيين نموذجيين مندمجين تمامًا". وكان ذلك في عام 1933، العام الذي استولى فيه النازيون على الحكم. ولم يكن لدى والدي أنيتا منخدعين بما كان النظام النازي يريد فعله مع اليهود: ففي نهاية عام 1939، نقلا شقيقة أنيتا الكبرى ماريان إلى بر الأمان في إنكلترا. ولم يستطيعا إنقاذ نفسيهما. وفي عام 1942، تم ترحيلهما ولم ترَ أنيتا أمها وأباها بعد ذلك.
وتم إجبارها هي وشقيقتها ريناته على العمل القسري في مصنع للورق. وقامتا هناك بتزوير وثائق لعمال سخرة فرنسيين وتمكينهم من العودة إلى الوطن. ولكن عندما حاولت الشقيقتان الهرب بجوازات سفر مزورة في عام 1943، تم اكتشافها وسجنهما. وبعد خمسة أشهر، نقلهما النازيون منفصلتين إلى أوشفيتس.
"عازفة التشيلو في أوشفيتس"
وأنيتا لاسكر كانت تجيد العزف على آلة موسيقية وتم فرزها إلى أوركسترا فتيات أوشفيتس. وحول ذلك قالت لاحقًا: "التشيلو أنقذ حياتي". وعندما كان عمال السخرة يغادرون المعسكر صباحًا ويعودون مساءً، كانت الأوركسترا تعزف موسيقى المارش العسكرية. وفي أيام الأحد، كانت الفتيات يعزفن لفرقة الوحدات النازية الخاصة (إس إس).
وضمن هذا السياق قالت: "لا أحد منا كان يصدّق أنَّنا لن نغادر أوشفيتس عبر المدخنة" محروقين. وفي تشرين الثاني/نوفمبر 1944، عندما كانت القوات السوفيتية تقترب من أوشفيتس، تم نقل أنيتا وشقيقتها إلى معسكر اعتقال بيرغن - بيلسن، الذي كان مكتظًا للغاية وكان الناس يموتون فيه من الجوع والعطش والمرض. وكتبت لاحقًا في مذكراتها: "أوشفيتس كان معسكرًا يقتل النازيون فيه الناس بشكل ممنهج. أما في بيلسن فكان الناس يموتون ببساطة".
"نحن مفعمون بالأمل والتفاؤل الجديد"
وفي 15 نيسان/ أبريل 1945 حرَّر الجنود البريطانيون المعسكر. وفي اليوم التالي، بثّت إذاعة بي بي سي بالألمانية واحدة من أوائل روايات شهود العيان من معسكرات الاعتقال الألمانية. وقفت أنيتا لاسكر أمام الميكروفون وقالت إنَّ: "سجناء أوشفيتس، القلائل الذين بقوا، يخشون جميعهم من ألا يُصدّق العالم ما حدث هناك". ووصفت تلك الوحشية بالتفصيل، ثم أضافت: "أخيرًا في الـ15 من نيسان/ أبريل، جاء التحرير، الذي كنا نأمله لثلاث سنين. نحن ما نزال نعتقد أنَّنا نحلم. نحن نشاهد الإنكليز يسيرون بسياراتهم عبر المعسكر: أشخاص لا يريدون لنا أي أذى. (…) ولكننا الآن نتطلع إلى الأمام، مفعمون بالأمل والتفاؤل الجديد. لقد تحررنا".
صمت طويل عن الماضي
وفي أيلول/ سبتمبر 1945 أدلت بشهادتها كشاهدة في محاكمة حراس معسكر بيرغن - بيلسن أمام محكمة عسكرية بريطانية. وكان من المفترض أن تكون تلك لفترة طويلة آخر مرة تتحدّث فيها عن الوحشية التي عاشتها في معسكرات الاعتقال النازية.
وفي عام 1946، هاجرت إلى بريطانيا. وفي لندن، كانت عضوًا مؤسسًا في أوركسترا الحجرة الإنكليزية، وعزفت في هذه الفرقة حتى مطلع الألفية الجديدة. وتزوجت أنيتا لاسكر من عازف البيانو بيتر فالفيش، الذي ينحدر مثلها من مدينة بريسلاو وقد هاجر إلى فلسطين ضمن عملية نقل أطفال. ولم تتحدث هي وزوجها مع طفليهما حول الماضي. وعندما سألتها ابنتها عنه سبب وشم رقم هاتف على ذراعها، أجابت الأم: "سأخبرك عندما تكبرين".
لقد استغرق الأمر عدة عقود حتى قررت أنيتا لاسكر فالفيش كتابة قصتها. وفي عام 1996 صدر كتابها "يجب أن ترثوا الحقيقة: عازفة التشيلو من أوشفيتس". وهذا الكتاب جعلها معروفة عالميًا كشاهدة معاصرة.
وفي عام 2018، ألقت أنيتا لاسكر فالفيش في البوندستاغ خطابًا حماسيًا ضد النسيان بمناسبة "يوم إحياء ذكرى ضحايا النازية". وقالت إنَّها تلاحظ وجود حاجة مجتمعية متزايدة لطي صفحة الماضي، ولكن "ما حدث قد حدث ولا يمكن محوه بجرة قلم".
والآن تحتفل بعيد ميلادها المائة، وبهذه المناسبة يقام في لندن حفل موسيقي تكريمًا لها، وبمشاركة العديد من كبار الشخصيات من جميع أنحاء العالم لتهنئة إحدى آخر الشهود المعاصرين الناجين من الهولوكوست. وستحتفل معها ابنتها مايا وابنها رافائيل، بالإضافة إلى أحفادها وأبناء أحفادها. والاحتفال الكبير ليس مهمًا بالنسبة للمحتفل بها نفسها. أنيتا لاسكر - فالفيش ربما تتمنى قبل كل شيء أن يتم التخلص أخيرًا من سم الكراهية ومعاداة السامية.
أعده للعربية: رائد الباش