القاهرة بعيون ألمانية
١٥ فبراير ٢٠٠٦سيد بروسيغ، هل تعجبك القاهرة، ما رأيك بها؟
توماس بروسيغ: مضى على وجودي هنا عشرة ايام، ولا بد لي من القول بأن إعجابي بها يزداد باضطراد. يحتاج المرء في البداية لأنْ يتعوّد عليها، فالمدينة مليئة بالقمامة، وحركة السير لا تصدق. أما الآليات التي تسير في وراعها فيمكن وصفها بخردةٍ على عجلات. بيد أنّ لطف الناس والاحساس بالأمان يعوضان عن هذه المظاهر – أنْ تشعر بالأمان في مدينةٍ بهذا الحجم الكبير أمرٌ لا يصدق. اليوم حضرت مباراة كرة قدم في الملعب الوطني وكان مكتظًا بالمتفرجين.
كيف كانت المباراة؟
بروسيغ: تشبه رحلة عبر العصور إلى حدٍّ ما. في الملاعب الألمانية لم تعد هناك أجواء حماسية بسبب التقنيات العالية المستخدمة. هنا كانت مكبرات الصوت قديمة لدرجة أننا لم نكن نفهم ما يقوله المعلق على المباراة. كان الضجيج الأقوى من صنيع المتفرجين. وعلاوة على ذلك، لم أكن أتوقع أنْ يكون ربع الحاضرين من النساء.
هل ثمة أشياء أخرى غير متوقعة اكتشفتها في القاهرة؟
بروسيغ: المسألة جليّة: عندما يذهب كاتب الماني في إطار مشروع "مداد" إلى المنطقة العربية، يتعين عليه أن يكتب عن صدام الحضارات، وأنْ يدوِّن تعليقاته بهذا الصدد، وأنْ يستشعر هذا الصدام أو ربما لا يستشعره. لم أكن أعلم أن ثمة أقلية مسيحية قوية الحضور في مصر، وأن العيش المشترك متحقق بشكل جيد. ليس تعايش مواطنٍ بجانب الآخر بل العيش المشترك الفعلي. في ما يخص الحياة اليومية المجتمع هنا متقدم علينا.
بينما يمثل الإسلام بالنسبة لنا شيئًا مجهولاً ومحاطًا بالريبة إلى حد ما، يضفي العيش المشترك هنا نوعًا من الأريحية على الحياة لم أكن أتوقعها. ففي زيارتي الأولى الى القاهرة لاحظت مؤشرات عنف أكثر. سمعت خطبةً في المذياع بلسانٍ سليطٍ جدًا، لو قورن غوبلز به لبدا دمية لطيفة. لحسن الحظ غابت ملاحظات من هذا النوع هذه المرة.
كان ثمة نقاش البارحة في معرض الكتاب تناول يومياتي المسجلة على الإنترنت. كتبتُ مبدئيًا وأنا أعي مخاطر سوء التقدير الوارد حدوثه. بيد أن النقاش الذي دار لم يكن مزعجًا بالنسبة لي، لأنّه بقي موضوعيًا ولم يحتد.
أخذت جملتك التالية حيزًا كبيرًا من الحوار: "يبدو لي هنا أن ثمة إجماعًا على أن كل ما هو ذات أهمية منصوص عليه في القرآن، وكل ما لا أهمية له ليس موجودًَا في القرآن"؟
لقد توصلت لذلك بعدما حضرت ندوة عامة للسيدة ليمباخ رئيسة معهد غوته. تحدثت ليمباخ في الندوة عن التسامح. وقد فوجئت بالنقاش الأحادي الجانب، حيث كانت العودة الدائمة فيه إلى القرآن. لم أكن أتوقع ذلك. وبما أنني أعلم أن القُرّاء هنا قليلون، قلت أن القرآن هو الكتاب الوحيد الذي يحظى بالأهمية. هذا ما يبدو لي.
بوسع كل مصري أنْ يواجه أي ألماني بحقيقة: أنّ لا أهمية البتة للرقص الشرقي عندكم. وستكون الإجابة: نعم صحيح! السؤال الذي طُرح: هل يحق لي أنْ اشرع بالكتابة وأنا لا أعرف شيئًا عن هذا البلد، ولا أحمل معي سوى ثقل التحذيرات من الإسلام؟ وهل يحق لي أنْ أنصِّب نفسي ناقدًا ثقافيًا؟
لقد ذكرت صدام الحضارات. هل كان ثمة صِدام بينك وبين المصريين؟
بروسيغ: تكمن خطورة علم الإجتماع في كشفه بأن ثمة أناسًا جيدين يؤسسون لمجتمعات هدامة تحت ظروف سيئة. كل المصريين الذين تعرفت عليهم كانوا لطيفين بلا استثناء. لكني أرى هنا معضلات مثل الفقر والنمو السكاني. بيد أنني تعلمت اليوم أنّ ثمة بصيصًا من الأمل هنا أيضًا.
لماذا ينظر المصريون بأمل نحو المستقبل؟
بروسيغ: لأنّ هناك مؤشرات نحو الديمقراطية. اتسعت حرية الصحافة. لكني لا اعرف لماذا حدث ذلك بالضبط.
كيف يتفاعل شركاؤك في الحديث معك؟
بروسيغ: أنا سعيد بالإنفتاح الكبير الذي أقابل به، وبالإهتمام بعرض الأمور علي. تبقى مهمتي الذاتية أن أزيل النظرة المسبقة. لا زلت اتحرك في "دائرة ضباب" غوته. والأمر يرتبط هنا في الحقيقة.
نشرت رقمك الخليوي على صفحة الإنترنت. هل اتصل بك أحد؟
بروسيغ: لا، وصلتني رسالة قصيرة واحدة تنصحني بقراءة كتاب معين. المرسلة اندريا. بيد أنني لا أعرف من هي اندريا.
هل لك أنْ تحدثنا عن تجربتك في تسجيل المذكرات اليومية؟
بروسيغ: لا تُكتب المذكرات اليومية عادة بغية نشرها. أمّا في حالتي فأعلم في لحظة الكتابة أنّ ما أكتبه سينشر، واتوقع ردود فعل ما. أحرر ما أكتب في الأحوال العادية مرات عدة قبل أنْ أدفع بالنصوص للنشر. علاوة على ذلك لا أكتب عادة سوى عن موضوع ألمُّ به وأشعر أني مختص به. أما هنا فأنا هاوٍ، ونشر أفكار غير مختمرة أمر غير اعتيادي بالنسة لي.
على ذكر الاختصاص سمعت كثيرًا من المتحدرين من برلين الشرقية أنّ القاهرة تذكرهم بألمانيا الديمقراطية. الروائح على سبيل المثال وكيف يبني السكان الشرفات الإضافية لمنازلهم. اقصد الارتجال باختصار. هل ينطبق الأمر عليك؟
بروسيغ: دعينا نقول أن الوضع في جمهورية المانيا الديمقراطية لم يكن بهذا السوء. التصدع الموجود هنا يذكرني قليلاً بالمانيا الديمقراطية، بيد أنّ تعاملنا مع الأشياء كان أكثر مرونة.
أشعر بإرتياح شديد في مصر، إذ أنني أُعامل كممثل للغرب في الحوارات الصحفية. أنا في المانيا (ألماني) شرقي دائمًا. اليوم أجول العالم باحثًا عن المانيا الديمقراطية. البارحة قارن أحدهم ظاهرة الأسلمة بالحنين الى الشرق (المقصود شرق أوروبا). مقارنة جديرة بالاهتمام. الحنين الى الشرق أمر لا خطر منه. لذا أجهد في أن أنظر الى العودة الى الإسلام على أنها أمر لا خطر منه، ولكي أنسى صدام الحضارات.
لنرى إلى أين سأصل بهذه الفرضية.
أجرت الحوار يوليا غيرلاخ
ترجمة يوسف حجازي
حقوق الطبع قنطرة 2006