أوكرانيا لعبة كبيرة ترهن أوروبا بحسابات واشنطن وموسكو
٢٣ أغسطس ٢٠٢٥في تطور ملفت، يوجد الرئيسان الروسي فلاديمير بوتين و نظيره الأوكراني فولوديمير زيلينسكي قاب قوس أو أدنى من عقد أول لقاء بينهما، منذ بدء الغزو الروسي قبل ثلاثة أعوام ونصف. يأتي ذلك في سياق زخم دبلوماسي مكثف أعقب القمة الأمريكية الروسية في ألاسكا وبعدها القمة الأمريكية الأوروبية في واشنطن. فقد وافقت واشنطن على المساهمة في توفير ضمانات أمنية لأوكرانيا ألح عليها الأوروبيون عقب اجتماع مجموعة من قادة أوروبا مع الرئيسين الأمريكي دونالد ترامب والأوكراني فلودومير زيلينسكي في البيت الأبيض. ورغم أن ترامب استبعد نشر قوات أمريكية على الأرض، إلا أن القادة الأوروبيين تنفسوا الصعداء ورحبوا بتطور الموقف الأمريكي. من جهته صرح الأمين العام لحلف الناتو مارك روته أن المناقشات جارية بشأن توفير ضمانات أمنية لأوكرانيا تماثل تلك المقدمة للدول أعضاء الحلف. وهذه التطورات تضع الرئيس الأوكراني أمام اختبار صعب.
بهذا الصدد كتبت صحيفة "ألموندو" الإسبانية (19 أغسطس / آب 2025) معلقة: "أصر الرئيس ترامب على طرح الموضوع الأكثر حساسية بالنسبة لكييف على الطاولة: التنازلات الإقليمية التي يطالب بها بوتين، والتي تشمل ضم دونيتسك ولوهانسك، بما في ذلك المناطق التي تسيطر عليها أوكرانيا (30% من هذه الأراضي). (..) لا يمكن للتطمينات التي أثارها استعداد واشنطن للتحدث مع أوكرانياعن الحديث عن "ضمانات"، وأن تخفي الثمن الذي ستدفعه أوروبا مقابل سلام مفصّل على مقاس الكرملين وهو تثبيت ضم غير قانوني من قبل روسيا، مما يقوض مبدأ حرمة الحدود، ومنح الشرعية لحملة بوتين، الذي أخرجه ترامب من عزلته من منبوذ إلى ضيف في ألاسكا، وأعاده بالتالي إلى الساحة الدولية".
هل يبالغ الأوروبيون في تقدير تأثيرهم على ترامب؟
من المثير للاهتمام وجود ما يشبه التنافس بين قادة أوروبا في ملاطفة دونالد ترامب، وهو ما يثير الشكوك بشأن صلابة الدعم الأوروبي "غير المحدود" لأوكرانيا في مواجهتهاللعدوان الروسي وفق عدد من المعلقين الأوروبيين. فأمام أعين كاميرات العالم يتسابق الأوروبيون في إظهار من له القدرة أكثر في التأثير على صانع القرار في البيت الأبيض. ولا يزال قادة القارة العجوز يحاولون لعب دور "الهامس في أذن" ترامب، لكن هذا الغزل اللطيف لم يأت إلا بنتائج محدودة لصالح الأوروبيين.
وبهذا الصدد كتبت صحيفة "هاندلسبلات" الألمانية معلقة (19 أغسطس / آب 2025) "المستشار الألماني فريدريش ميرتس، رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني، والأمين العام لحلف الناتو مارك روته، جميعهم سعوا إلى إقامة اتصال مباشر، ومزيج محسوب بين الإطراء والنصح الجاد. جميعهم حاولوا إقناع ترامب بأن أوروبا، وأمريكا، وأوكرانيا حلفاء، وبأن روسيا لا يجب أن تُكافأ على حربها العدوانية غير القانونية، وأن فلاديمير بوتين لا يحترم إلا القوة". غير أن المشكلة، تقول الصحيفة هي أن تلقي ترامب للمجاملات بامتنان لا يوازيه سوى زيادة ضغطه على الأوروبيين بـ"إجبارهم على التراجع. سواء في مفاوضات الجمارك أو في المحادثات حول مستقبل أوكرانيا. وكل مرة يتنازل الأوروبيون عن مطالبهم الأساسية، ويعرضون ذلك على أنه نصر دبلوماسي".
بين حسابات ترامب وبوتين أي دور لأوروبا؟
يظل موقف أوروبا من جهود السلام في الحرب الأوكرانية مشوبا بالتحفظ والحذر، وبقلق دائم من أن تُهمَّش مصالح القارة العجوز أو يُتجاهل موقفها الموحد تجاه أوكرانيا. الاتحاد الأوروبي ركّز على ضرورة أن تكون أي تسوية سلمية شاملة وعادلة مطابقة للقانون الدولي، ما يضمن سيادة أوكرانيا ووحدة أراضيها. رغم ذلك، دعمت أوروبا كل الجهود الدبلوماسية التي تُخفّف من حدة التصعيد، لكنها أصرت في الوقت ذاته على إبقاء العقوبات المفروضة على موسكو وربطت رفعها بإحراز خطوات حقيقية نحو السلام، بمعنى انسحاب القوات الروسية من الأراضي الأوكرانية. ويخشى الأوروبيون بشكل خاص من أن تؤدي مقاربات ترامب البراغماتية إلى تقديم تنازلات استراتيجية لروسيا من شأنها زعزعة أمن واستقرار أوروبا الشرقية.
في ذات السياق، كتبت صحيفة "كوريري ديلا سيرا" الإيطالية (20 أغسطس / آب 2025): "منذ الغزو الروسي لأوكراني في 24 فبراير/ شباط 2022، قامت المفوضية والحكومات الأوروبية بخطوات ملحوظة للدفاع عن أوكرانيا وتعزيز الدفاع عن القارة. كثيرون لم يتوقعوا ذلك. ولكن في عالم عاد فيه الصراع بين القوى الكبرى إلى الواجهة، وأصبحت الساحة الآن يحتلها ترامب وبوتين، فإن الأمر يتطلب أكثر من ذلك. لقد فرض الاتحاد الأوروبي على نفسه قواعد لا يمكن المساس بها. وبسبب تمسكه الصارم بالقواعد والمبالغة في الشكليات، فقد خلق صرامة تمنعه الآن من إعطاء الأولوية للقرارات السياسية. وهذه الأخيرة تحتاج إلى المرونة كما يحتاج الإنسان إلى الهواء للتنفس. فقط بهذه الطريقة يمكن إقناع مواطني أوروبا بأهمية هذه اللحظة التاريخية".
الضمانات الأمنية الأوروبية في الميزان
حتى قبل قمة ألاسكا، وقعت جميع الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، باستثناء المجر، رسالة تعرب عن دعمها لمبادرة السلام التي طرحها ترامب وحذرت من أن الأوكرانيين هم الذين "لهم الحق في اختيار مصيرهم ودعت إلى فرض عقوبات على روسيا. ويضغط مسؤولو الاتحاد الأوروبي من أجل وجود ضمانات أمنية تتجاوز الكلمات. ولا يزال حلفاء واشنطن الأوروبيين يشعرون بالقلق من أن ترامب قد يدفع كييف إلى إبرام اتفاق لصالح موسكو من أجل تحقيق انتصار في السياسة الخارجية الأمريكية. غير أن الكرملين حذر من أن حلّ القضايا الأمنية المتعلقة بأوكرانيا باستبعاد موسكو لن يكون مجديا. كما انتقد وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف تحديدا دور وموقف القادة الأوروبيين الذين ناقشوا مع الرئيس ترامب والرئيس زيلنسكي في البيت الأبيض الضمانات الأمنية لأوكرانيا.
وعلقت إذاعة "إل.آر.تي" الليتوانية (19 أغسطس / آب 2025) على ذلك وكتبت بأن "الضمانات الأمنية طويلة الأمد ستصبح محورًا أساسيًا في هذا النقاش. فمن دونها، سيكون أي اتفاق مجرد هدنة مؤقتة حتى تبدأ المرحلة الموالية للحرب، حين تستعيد روسيا قدراتها العسكرية المفقودة. ويدّعي بعض المقربين من ترامب أن الأميركيين قد يشاركون أيضًا في تقديم ضمانات تشبه من حيث المنطق المادة الخامسة من ميثاق حلف الناتو. من المفارقات أن نفس صنّاع القرار الذين يشددون على أن هذه الحرب ليست "حربهم" وأن الدعم المالي لأوكرانيا ليس أولوية، هم من يدرسون الآن التزامات جدية. ولا يزال من غير الواضح ما إذا كانت هذه الالتزامات قد تُترجم على أرض الواقع. إن موضوع الضمانات الأمنية يكشف عن معضلة أوسع: إذا كانت تلك الضمانات شكلية فقط، فإن المعتدي سيبقى لديه دافع لتجديد هجومه. أما إذا كانت حقيقية، فإن ذلك سيعني التزامًا غربيًا نشطًا طويل الأمد. وهو ما يعتبر اختبارًا جديا لأوروبا".
ألمانيا والدور الأوروبي في مرحلة ما بعد الحرب
رسميا، وصفت الحكومة الألمانية قمة واشنطن بـ "التاريخية" لكونها، وبعد زخم قمة ألاسكا التي سبقتها والتي اعتبرتها أوروبا في حينها أنها تخدم مصالح روسيا، قلبت الأمور رأسا على عقب لصالح الموقف الأوروبي. وأكدت برلين أنها ستشارك في تقديم ضمانات أمنية لأوكرانيا لفترة ما بعد توقيع اتفاق سلام، لكنها ذكرت أن القرار بشأن طبيعة وحجم الإسهام الألماني لن يتخذ "إلا" عندما تتضح الصورة العامة حول نوعية الضمانات الأمنية المطلوبة وحجمها، وحول ما الذي يمكن أن تقدمه أوكرانيا بنفسها لضمان أمنها، وطبيعة الضمانات التي يمكن أن توفرها دول أخرى، وخاصة الولايات المتحدة.
وقد دعا رئيس الكتلة البرلمانية للحزب الديموقراطي المسيحي، ينس شبان، "إلى التروي في النقاش" الدائر حول احتمال إرسال جنود من الجيش الألماني إلى أوكرانيا في حال التوصل إلى اتفاق سلام. وهو ما دعا إليه أيضا، ديرك فيزه المدير البرلماني لكتلة الحزب الديمقراطي الاشتراكي، حين صرح لمجموعة "فونكه" الإعلامية الألمانية قائلا بأنه "لا يمكن مناقشة تدابير حفظ السلام إلا عندما يلوح السلام في الأفق". وأكد فيزه على أن القدرة الدفاعية لأوكرانيا تأتي في المقام الأول ضمن هذه التدابير، ليختم تصريحاته قائلا. "مسألة احتمال مشاركة الجيش الألماني غير مطروحة في الوقت الراهن". من جهته قال الكولونيل أندريه فوستنر رئيس رابطةالجيش الألماني إن على قادة حلف شمال الأطلسي الأوروبيين "ألا يكونوا ساذجين عند مناقشة إرسال قوة سلام إلى أوكرانيا"، بل عليهم مواجهة حقيقة أن ذلك سيتطلب نشر عشرات الآلاف من الجنود في البلاد لفترات طويلة.
المطالب الأوروبية وانتظارت قاعدة ترامب الانتخابية
الموقف الجديد لدونالد ترامب بشأن تقديم ضمانات أمنية لأوكرانيا وإرضاء الأوروبيين قد يغير ديناميكية حلّ الأزمة الأوكرانية، لكن قاعدة أنصار الرئيس الأميركي اليمينية سارعت لتحذيره من المبالغة في هذا الصدد. وبعدما قضى حملته الانتخابية العام الماضي يندد بسلفه جو بايدن لتخصيصه مليارات الدولارات كمساعدات لأوكرانيا وقام بتوبيخ الرئيس الأوكراني زيلينسكي علنا، يفكّر ترامب حاليا بتقديم تعهّدات لكييف على أمل وضع حدٍّ للغزو الروسي. ورغم استبعاده نشر قوات على الأرض أو السماح لكييف بالانضمام إلى حلف الناتو، أيّد ترامب موقف بوتين الذي طالما أشار إلى طموحات أوكرانيا بالانضمام إلى الحلف الأطلسي لتبرير غزو أوكرانيا في فبراير 2022.
تمكن الأوروبيون من عرض مطالبهم ومخاوفهم الأمنية بشأن أوكرانيا بشكل واضح ومنسق على الرئيس الأمريكي. هذا الموقف الموحد أسهم في كسبهم الاحترام في أعين عدد من المعلقين، الذي أعزى عدد منهم أن ذلك يعود بدرجة كبيرة إلى رفع دول الناتو لنفقاتها الدفاعية. وقد كتب موقع "دويتشلاند فونك" الألمانية (19 أغسطس / آب 2025) في هذا السياق، بأن "هذا هو النجاح الأهم لواشنطن. قدم زيلينسكي والأوروبيون الآخرون، بطريقة منسقة ومتناسقة وبنبرة ترضي ترامب، مخاوفهم واحتياجاتهم الأمنية. وقد أُعجب الرئيس الأمريكي بذلك، حاليا على الأقل. يعرف الأوروبيون الآن أن العديد من مواقف ترامب لها مدة صلاحية قصيرة، ربما لا يستطيع حتى الرئيس الأمريكي (نفسه) التنبؤ بها. وهم يعرفون أن عليهم البقاء قريبين من ترامب باستمرار".
تحرير: وفاق بنكيران