ألمانيا ـ تراجع الصناعة والتصدير يُدخل الاقتصاد في نفاق مظلم
١ مارس ٢٠٢٥ساهم تراجع قطاع الصناعة والصادرات وتغيرات جيوسياسية إلى انكماش أكبر اقتصاد في أوروبا، حيث بلغ هذا التراجع في أواخر عام 2024 نسبة 0.2 بحسب ما أفادت بيانات وكالة الإحصاءات الاتحادية، بل ولم يتمكن الاقتصاد الألماني من مواكبة مستويات النمو في الاتحاد الأوروبي. وقالت الوكالة إن النمو "سجّل في ألمانيا مستويات أقل من تلك المسجلة على صعيد التكتل بأكمله في اقتصادات إقليمية كبرى أخرى. كما أظهرت نفس البيانات عجزا في الأداء الاقتصادي في قطاع التصنيع بنسبة 0.6 في المئة، في سابع تراجع على التوالي. وبات الوضع الاقتصادي المقلق من بين أهم التحديات التي تنتظر حكومة المستشار المقبل فريدريش ميرتس الذي فاز في الانتخابات التشريعية الأخيرة.
وبهذا الصدد كتبت صحيفة "تاغسشبيغل" الصادرة في برلين (27 فبراير/ شباط 2025) معلقة "بالنسبة للتكتل المسيحي (الفائز في الانتخابات)، يُعدّ الاقتصاد وعمل المقاولات أمرًا بالغ الأهمية. فهي تشكل العمود الفقري للنجاح. في ظل وضع متوتر تطبعه حالات إفلاس عشرات الآلاف من الشركات (..) وقد تم استطلاع آراء آلاف أرباب العمل، اذ يتمنى 95٪ منهم "قانون انعاش اقتصادي".
تعثر غير مسبوق للقطاع الصناعي
لقد كان عام 2024 سنة الكوارث بامتياز بإعلان عدد من الشركات الألمانية عن خطط واسعة النطاق لتسريح موظفيها، شملت أبرز الشركات كفولكسفاغنلصناعة السيارات، وتم التوصل إلى اتفاق في نهاية ديسمبر/ كانون الأول، يقضي بإلغاء قياسي لـ35.000 وظيفة حتى نهاية عام 2030. وقبل بضعة أسابيع، كانت مجموعة بوش، أكبر مورّد لمعدات السيارات في العالم، قد أعلنت عن حذف 10.000 وظيفة في ألمانيا. كما سيتم إلغاء 11.000 منصب عمل في شركة تيسنكروب، و5.000 منصب في كونتيننتال، و14.000 في "زد إف"، و2.900 في فورد. وهكذا سجلت أسهم جميع الشركات الألمانية الكبرى في قطاع السيارات انخفاضا في قيمتها. ولعل الاستثناء الوحيد هو حالة شركة صناعة الأسلحة راينميتال التي ارتفعت أسهمها بنسبة 116% (سعر السهم تجاوز عبر منصة إكسترا، مؤقتا 1000 يورو، لتتألف قيمته لأول مرة من أربعة أرقام يوم 28 فبراير)، ومصنّع محركات الطائرات "إم.تي أو آيرو" بزيادة قدرها 66%، وذلك بسبب ارتفاع الانفاق الدفاعي المرتبط بالحرب في أوكرانيا.
موقع "في.دي.إير" الألماني (14 فبراير) تساءل معلقا "إذا استمر الوضع على هذا النحو، فإن الانحدار سيتواصل أيضًا في عام 2025 ويترسخ الركود، للعام الثالث على التوالي. في برامجها الانتخابية، وعدت الأحزاب بتقديم الحلول لمواجهة الأزمة الاقتصادية من خلال دعم أسعار الكهرباء، وتخفيف الضرائب، وتقليص البيروقراطية (..) كان الاقتصاد الألماني قد واجه تحديات كبيرة في السنوات الأخيرة: منها زيادة تكاليف الطاقة بعد أن اضطرت ألمانيا للابتعاد عن الطاقة الرخيصة القادمة من روسيا. ومع ارتفاع تكاليف الإنتاج في ألمانيا في ظل بنية تحتية مدمرة (جسور وطرق ومسارات سكة حديد تجعل اللوجستيك مكلفا للغاية). وأضاف الموقع مستطردا "لا يمكننا التخلي عن صناعة السيارات. لكن أليس من الضروري الآن أن نفكر في اقتصادنا بشكل أكثر تنوعًا من أجل المستقبل؟ الذكاء الاصطناعي هو الموضوع الذي قد يعيد تشكيل النظام الاقتصادي في عالمنا بشكل كبير. ولكن رغم أن هناك أبحاثًا جيدة تُجرى هنا في ألمانيا حول هذا الموضوع، إلا أن ألمانيا تترك الساحة لشركات من الولايات المتحدة والصين. مصانع رقائق الكمبيوتر التي من المقرر أن تُبنى هنا في شرق ألمانيا، تنتج بشكل أساسي رقائق لصناعة السيارات، وليس رقائق الذكاء الاصطناعي".
آفاق الاقتصاد القاتمة تؤثر على سوق العمل
تتوقع الشركات الألمانية الاستمرار في تقليص عدد الوظائف كما أظهره مؤشر التوظيف الجديد الصادر يوم الأربعاء (26 فبراير) عن معهد "إيفو" في ميونيخ. وبحسب التقرير، فإن القطاع الصناعي هو الأكثر تأثرًا. وأوضح رئيس قسم الاستطلاعات في معهد إيفو، كلاوس فوله رابه، أن "الوضع في سوق العمل يبقى متوترًا بسبب التحول الهيكلي في الاقتصاد". وقد انخفض مؤشر التوظيف لدى معهد إيفو في فبراير إلى 93.0 نقطة، بعد أن كان 93.4 نقطة في يناير. وباستثناء بعض الارتفاعات الإيجابية الفردية، فإن قيم المؤشر قد انخفضت بشكل مستمر نسبيًا منذ منتصف عام 2022.
في القطاع الصناعي، شهد المؤشر في فبراير زيادة طفيفة من 22.4 في يناير إلى 19.8 نقطة. ومع ذلك، لا يزال من المخطط تقليص الوظائف في هذا القطاع بشكل "قوي نسبيًا"، حسبما ورد في التحليل. وضاعت نحو 70.000 وظيفة في القطاع الصناعي الألماني خلال العام الماضي، وهو ما يمثل انخفاضًا بنسبة 1.2%. وفي صناعة النسيج والملابس، انخفض عدد العاملين بنحو 4%. وفي صناعة السيارات، تم تسجيل انخفاض بنسبة 2.4%..
وبهذا الصدد كتبت صحيفة "هاندلسبلات" الاقتصادية (12 فبراير) "ليس فقط الحروب والصراعات السياسية هي التي تضعف موقع ألمانيا، بل أيضًا البريوقراطية ونقص الابتكار والتركيز. هذا ما أظهرته الآن دراسة وضعت تحت المجهر أكبر 100 شركة ألمانية مدرجة في البورصة، التي قدمتها شركة الاستشارات "أدفايس" بالتعاون مع "الجمعية الألمانية لحماية حاملي الأسهم .(DSW) تلك الشركات "غاصت في نوم عميق خلال عشرين عاما"، كما أوضح المدير العام لـ DSW، مارك تونغلار، إذ استراحت على اقتصاد قوي ونجاحاتها السابقة. لماذا إذا إعادة الهيكلة إذا كانت الأرباح تتدفق؟ إنها وجهة نظر لم يتبناها عدد من مديري الشركات فحسب، بل أيضًا مجالس الإشراف وكذلك ممثلو الموظفين الذين يحمون مصالحهم".
ترامب يزيد من غموض الظرفية الدولية
فاقمت تهديدات الرئيس الأميركي دونالد ترامب بفرض رسوم جمركية مخاوف أوساط الأعمال الألمانية، في وقت كانت الولايات المتحدة أكبر شريك تجاري لألمانيا العام الماضي. ونقلت وكالة الأنباء الألمانية (د.ب.أ) تحليلا أجرته شركة التأمين الائتماني "أليانز تريد"، أكد أنه في حالة فرض واشنطن ما يعرف بـ"الرسوم الجمركية المتبادلة"، فإن الرسوم الجمركية التي قد تفرض على الشركات في الاتحاد الأوروبي سترتفع بمقدار 13 نقطة مئوية في المتوسط. ولم يتضح بعد ما إذا كانت الولايات المتحدة ستفرض فعليا رسوما بهذا الحجم. وأعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن ما يسمى بالرسوم الجمركية المتبادلة في منتصف فبراير/ شباط الجاري ووقع على مرسوم بذلك. وتعني الرسوم الجمركية المتبادلة في الأساس أن الولايات المتحدة ستزيد الرسوم الجمركية على البضائع الواردة من الدول التي تفرض رسوم أعلى على البضائع الأمريكية مما تفرضه الولايات المتحدة على البضائع القادمة من تلك الدول حتى الآن.
وبهذا الشأن علقت صحيفة "فايننشال تايمز" (21 فبراير) "تجري الانتخابات الألمانية في جو من القلق الشديد بشأن المخاطر التي تلوح في الأفق على الأمن والديمقراطية الليبرالية والرفاهية الاقتصادية في ألمانيا. من المحير بالنسبة للألمان أن الولايات المتحدة، التي كانت لثمانية عقود بمثابة مرشد وحليف، تحولت تحت إدارة دونالد ترامب إلى شخص وقح يستهجن النموذج الديمقراطي الذي بُنيت عليه ألمانيا بتوجيه أمريكي (..) أيًا كان من سيشكل الحكومة الألمانية المقبلة، فإنه يجب أن يتخذ خطوات جريئة لإنعاش الاقتصاد. فقد سجلت ألمانيا نموًا سلبيًا لسنتين متتاليتين، متخلفة بذلك عن الولايات المتحدة وحتى عن منطقة اليورو ككل. هذا الوضع القاتم يتطلب إصلاحات لتعزيز الابتكار والتنافسية، بالإضافة إلى الابتعاد عن "فرامل الدين" التي تم تضمينها في الدستور، والتي أبطأت الاستثمارات المحلية".
خسارة تاريخية للبنك المركزي الألماني
تكبد البنك المركزي الألماني "بوندسبنك" خسارة تاريخية في عام 2024 بسبب سياسة سعر الفائدة التي اتبعها البنك المركزي الأوروبي. وهذه هي المرة الأولى منذ عام 1979 التي يسجل فيها البنك خسارة من هذا النوع والتي بلغت العام الماضي 19.2 مليار يورو. في عام 2023، كانت الخسارة أكبر حيث بلغت 21.6 مليار يورو، لكن تمكن البنك حينها من تعويضها باستخدام احتياطياته المالية الكبيرة. بعد استنفاد الاحتياطيات البالغة 0.7 مليار يورو بالكامل، سجل البنك في 2024 خسارة قياسية. ومع ذلك، من المتوقع أن تكون الخسائر السنوية المستقبلية أقل. ويقدر رأس المال الصافي للبنك بحوالي 251 مليار يورو. وكانت احتياطيات التقييم، خاصة بالنسبة للذهب، أعلى بكثير من الخسائر الحالية والمتوقعة في الميزانية العمومية. ومن المتوقع أن تصل هذه الاحتياطيات إلى 267 مليار يورو في نهاية 2024.
وأشارت تقديرات وزارة المالية الألمانية إلى أن الخسائر المتوقعة للبنك المركزي الألماني في هذا العام، لن تؤثر على الميزانية الفيدرالية. وقالت متحدثة باسم الوزارة في برلين (26 فبراير) إن الوزارة لم تتوقع أن يحقق البنك المركزي أرباحا في 2025 أيضا، وبالتالي فلن يظهر عجز جديد في الميزانية. وأشارت المتحدثة في هذا الصدد أيضا إلى تصريحات رئيس البنك المركزي الألماني يواخيم ناغل، التي أعلن فيها عن تجاوز ذروة الأعباء السنوية. وصرح ناغل بأن توزيع الأرباح على الحكومة الاتحادية لن يكون متوقعا على المدى الطويل. يذكر أن الميزانية الفيدرالية لعام 2025 لم يتم اعتمادها بعد من قبل البرلمان الألماني. وتحتوي مسودة الميزانية الاتحادية على فجوات بمليارات اليورو. ومن المتوقع أن تشكل السياسة المالية واحدة من التحديات الرئيسية للتحالف الحكومي الجديد.
ح.ز/ يب