أحد الناجين من سريبرنيتسا: سرد القصص باسم الموتى
١١ يوليو ٢٠٢٥يمشي عبر الغابة لمدة ستة أيام. تحت نيران مستمرة بدون طعام وماء تقريبا وبدون نوم. وفي خضم الفوضى والركض للنجاة بحياته بعد هجوم مدفعي يفقد أثار والده وأخيه في اليوم الثاني. يسير على قدميه وهو متعب. جاثما في الأحراش يرى الجنود يطلقون النار على الفارين كما لو كانوا يصطادون الحيوانات. ويزحف وسط وابل من الرصاص والقنابل اليدوية في الخلاء والحقول وعلى مفترقات الطرق. يرى جرحى لا يستطيع مساعدتهم. في إحدى المرات عندما كاد أن ينام دفعه رجل وقال له: "إذا نمت الآن، فسيكون ذلك إلى الأبد". فتمالك نفسه.
بعد ظهر اليوم السادس يصل هو ومئات الآخرين إلى الأراضي التي يسيطر عليها الجيش البوسني. في قرية صغيرة يستقبلهم السكان بالطعام والشراب. بعد ذلك يتم نقلهم جميعا إلى مبنى مدرسة. هناك ينام على الأرض ولا يستيقظ إلا في اليوم السابع.
حسن حسنوفيتش، 49 عاما هو أحد الناجين من الإبادة الجماعية في سربرينيتسا في تموز/ يوليو 1995 وحتى يومنا هذا ينتابه شعور بعدم الفهم عندما يتحدث عن ما يسمى بمسيرة الموت في سربرينيتسا: محاولة آلاف الرجال والصبية الهروب من القتل. "كانت مسيرة الموت حقيقة واقعة. لكنني وجدتها أيضا سريالية تماما"، يتذكر حسن حسنوفيتش. كان عمره 19 عاما في ذلك الوقت. "لم أستطع تصديق ما كان يحدث. وفي النهاية لم أصدق أنني نجوت".
مطاردة في شرق البوسنة
11 تموز/ يوليو 1995 شرق البوسنة. استولت قوات قائد جيش صرب البوسنة راتكو ملاديتش على جيب ومنطقة حماية الأمم المتحدة في سريبرينيتسا، حيث حوصر 36 ألف شخص من البوسنيين المسلمين جميعهم تقريبا من المدنيين. ليس هناك شك في أن الرجال الذين هم في سن الخدمة العسكرية على الأقل سيُقتلون على الأرجح إذا تم أسرهم. لذلك قرر معظمهم محاولة الهرب. ومن خلال السير عبر الغابات يريدون الوصول إلى المنطقة التي يسيطر عليها الجيش البوسني في المنطقة المحيطة ببلدة توزلا على بعد حوالي 70 كيلومترا إلى الشمال الغربي.
في مساء يوم 11 تموز/ يوليو 1995 شكّل حوالي 12 ألف رجل طابورا طوله كيلومتر واحد وانطلقوا. عبر أراضٍ معادية ملغومة جزئيا متجاوزين مواقع الجيش البوسني الصربي تحت نيران مستمرة لمدة ستة أيام. وقامت قوات ملاديتش بعملية مطاردة غير مسبوقة. وصل حوالي ثلث المشاركين في المسيرة فقط إلى الأراضي الآمنة على قيد الحياة. ولهذا السبب ستعرف هذه المسيرة فيما بعد باسم مسيرة الموت في سربرينيتسا. وأحد الناجين هو حسن حسنوفيتش.
أرشيف فيديو يحتوي على شهادات
يعمل حسن حسنوفيتش البالغ من العمر 49 عاما الآن في النصب التذكاري لسريبرينيتسا وهو النصب التذكاري للإبادة الجماعية في بوتوكاري على بعد بضعة كيلومترات شمال سريبرينيتسا. دُفنت رفات حوالي 7 آلاف من ضحايا سربرينيتسا الذين تم التعرف على هوياتهم، 8372 منهم معروفون بالاسم في المقبرة هناك. ويوجد أيضا متحف كبير في قاعات مصنع سابق للبطاريات حيث كانت تتمركز قوات قوة الأمم المتحدة للحماية في السابق.
واعتاد حسن حسنوفيتش أن يرشد مجموعات من الزوار عبر المتحف ويروي قصصهم. أما اليوم فهو يعمل بشكل رئيسي كأمين معرض وأمين أرشيف. أهم مشروع له هو أرشيف يضم تسجيلات فيديو للناجين من الإبادة الجماعية في سربرينيتسا حيث يروي فيها الناجون قصتهم وهي شهادة فريدة من نوعها وربما تكون أهم شهادة على الجريمة. ويضم حتى الآن حوالي 700 فيلم مع مقابلات. ويمكن مقارنة المشروع بأرشيف كلود لانزمان الشهير للأفلام والصوتيات عن المحرقة اليهودية وهو جزء من التراث الوثائقي العالمي لليونسكو.
مراهق أوروبي عادي
عندما يتحدث حسن حسنوفيتش عن حياته ونجاته يقول إنه شعر لفترة طويلة كما لو أن شخصا آخر كتب سيناريو حياته وأن عليه أن يتبعه دون أن يكون له أي سيطرة عليه. وعندما بدأت الحرب في البوسنة والهرسك في ربيع عام 1992 كان حسنوفيتش في السادسة عشرة من عمره مراهقا أوروبيا عاديا كان مهتما بالموسيقى وكرة القدم بشكل أساسي وليس بالسياسة.
دُمّر عالمه فجأة عندما بدأت الحرب. فرت الأسرة في البداية من التطهير العرقي في شرق البوسنة إلى الغابات المحيطة بسريبرينيتسا وعاشت في حفر في الأرض وأماكن أخرى للاختباء في الغابة. ثم انتقلوا لاحقا إلى البلدة نفسها التي أصبحت جيبا للاجئين البوسنيين. عاش حسن هناك لمدة ثلاث سنوات بين غارات القصف والبحث عن الطعام في الغابة والدروس المدرسية المرتجلة.
"الألم يكاد لا يُطاق"
في 11 تموز/ يوليو 1995، عندما دخلت قوات ملاديتش إلى سريبرينيتسا قرر والده عزيز وشقيقه التوأم حسين وهو نفسه الذهاب في المسيرة التي أصبحت تعرف باسم مسيرة الموت. رأى حسن والده وشقيقه التوأم للمرة الأخيرة في 12 تموز/ يوليو 1995. عُثر على رفاتهم بعد سنوات في مقابر جماعية.
ألّف حسن حسنوفيتش كتابا يتضمن سردا لسيرته الذاتية عن حياته وبقائه على قيد الحياة في سريبرينيتسا. يقول فيه: "أسوأ شيء هو الألم عندما أفكر كيف قُتل أخي حسين وأبي عزيز: هل تعرضا للتعذيب وكم من الوقت استغرق الأمر حتى ماتا في النهاية؟ هذا الألم يكاد لا يطاق".
العودة إلى سربرينيتسا
بعد نجاته من الموت استكمل حسن حسنوفيتش دراسته في المستوى المتقدم ثم درس علم الجريمة وعمل مترجما للجيش الأمريكي لأنه كان يتحدث الإنجليزية بطلاقة. وفي عام 2003 تمكّن من دفن رفات أخيه في النصب التذكاري في بوتوكاري وبعد عامين دفن رفات والده. وفي عام 2009 بدأ العمل في مركز النصب التذكاري. ويقول حسن حسنوفيتش إنها كانت عملية طويلة ومؤلمة للعودة إلى سريبرينيتسا وتحمل الوجود والعمل هناك.
"تطاردك الذكريات. كل شيء هناك هو تذكير بالإبادة الجماعية والبقاء على قيد الحياة. في البداية كان علينا أن نذهب إلى الجنازات بحماية الشرطة. كان القوميون الصرب يقفون على جانب الطريق ويلوحون بأصابعهم برموز النصر القومي. لا يزال الجناة يعيشون في سريبرينيتسا حتى اليوم. بالنسبة لأي شخص في سن معينة، يتساءل المرء عما كانوا يفعلونه في ذلك الوقت، وما إذا كانوا هناك. لسنوات عديدة، ظننتُ لسنوات عديدة أنه لا يمكنني العودة إلا إلى الجنازات. ولكن بعد ذلك انتابني شعور بأن والدي وأخي كانا ينظران إليّ. وأنهما كانا يتوقعان مني أن أخبرهما لأنهما لم يعد لديهما صوت. شعرت بالتشجيع والتمكين لأروي قصتي".
ليس ضحية .. بل ناجٍ
عندما يتحدث حسن حسنوفيتش لا يبدو صوته متهما ولا مخنوقا بالألم. لا ترى الدموع في عينيه ولا يبدو أنه غارق في الحزن ولا تشعر بأي غضب أو كراهية في داخله. لكنه لا يحب كلمتي المصالحة والوفاق اللتين غالبا ما تستخدمان عندما يظهر ويتحدث في الخارج خاصة في ألمانيا. ويقول إنهما كلمتان توحيان بالخلاف. "لم تكن لدينا خصومة مع أحد والحرب في بلادنا لم تكن حربا أهلية. لقد كانت حربا طُردنا فيها ودُمرنا. لقد كانت إبادة جماعية. يجب على صربيا والصرب أن يتصالحوا مع هذا التاريخ، ويجب أن يعترفوا بالإبادة الجماعية بدلا من إنكارها".
تشع كرامة كبيرة عن حسن حسنوفيتش عندما يتحدث عن الفروق الدقيقة في الكلمات. تماما كما يفعل عندما يروي قصة نجاته. هذه الكرامة هي انتصاره على الإبادة الجماعية، انتصاره على الشر. إنه يحرص على عدم تسميته "ضحية الإبادة الجماعية". فهو يقول إن الضحايا هم أولئك الذين قُتلوا لكنه يسمي نفسه ناجيا. هذه الكلمة بمثابة لقب له يحمل في طياته مهمته ودعوته. مهمة رواية القصة. يقول: "سأروي القصة ما دامت لديّ القوة للقيام بذلك".
تابع القراءة لمعرفة المزيد: حسن حسنوفيتش، النجاة من سربرينيتسا، دار نشر فالشتاين، غوتنغن 2022
أعده للعربية: م.أ.م